صراعات النفوذ والمصالح تربك عمل بنك السودان المركزي
بنك السودان المركزي- المصدر: منصة الناطق الرسمي حكومة جمهورية السودان
امستردام: الثلاثاء 28/ أكتوبر/2025م: راديو دبنقا
تقرير: سليمان سري
شهد بنك السودان المركزي حالة من صراعات النفوذ السياسية والاقتصادية مع أصحاب الشركات المصدرة للذهب من جهة وبعض القيادات النافذة في الدولة من جهة أخرى، وذلك في محاولة من بنك السودان المركزي لتطبيق قراراته بحظر شراء وتصدير الذهب من قِبل الشركات أو من إنتاج التعدين الأهلي، واقتصار شرائه على البنك المركزي أو من يفوضه، أما تصديره فيقتصر على البنك فقط.
غير أن القرار لم يرضي أصحاب الشركات وبعض النافذين في الدولة، ما أضعف موقف البنك المركزي، حيث صدر قرار مفاجئ من رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان بإقالة محافظ بنك السودان المركزي برعي الصديق علي أحمد، في أعقاب اجتماع عاصف عقد مؤخراً مع ممثلي الشركات وبحضور وزير المالية.
وتم تعيين آمنة ميرغني حسن التوم خلفاً له، كأول سيدة سودانية تتولى هذا المنصب. لم يمض إسبوعين حتى صدر القرار الثاني بإقالة الرجل الثاني في البنك، نائب محافظ بنك السودان المركزي محمد عثمان أحمد محمد خير يوم الجمعة.
و أثارت قرارات الإقالات المتتالية، الجدل حول ما يدور داخل بنك السودان المركزي ولماذا تصاعدت وتيرة الصراعات بشكل متسارع لتصل مرحلة تصفية الحسابات بإبعاد قيادات عليا داخل البنك. وماهي الأسباب الحقيقية وراء التغييرات المتكررة في قيادة البنك المركزي.
وقال الخبير المصرفي عمر سيد أحمد في حديث لـ”راديو دبنقا” إن تكرار الإقالات والتعيينات في بنك السودان يعكس ما وصفه بتسييس القرار النقدي وغياب الاستقلال المؤسسي للبنك المركزي منذ عقود، مشيراً إلى أن الحكومات المتعاقبة ظلت تنظر إليه كـ”ذراع تمويل” للسياسات المالية، وليس كسلطة نقدية مستقلة، “الأمر الذي جعل المنصب عرضة للتبديل كلما تغيّر ميزان القوى أو نشب خلاف سياسي”.
وأضاف بأنً هذا النهج أدى إلى تآكل المصداقية المؤسسية وفقدان الاستمرارية في السياسات النقدية، وأصبح المحافظ يستبدل مع كل خلاف سياسي أو تغيير في ميزان القوى داخل الدولة وصراع المصالح حول الذهب.
مصالح متشابكة
وأشار إلى أحد أبرز مظاهر الصراع يتمثل في المصالح المتشابكة حول ملف الذهب، حيث “تحوّل الذهب منذ أعوام إلى المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي وأصبح يغطي أكثر من 60% من حصائل الصادر، السودانية، ما أدى إلى ظهور شبكات ذات مصالح متعددة، رسمية وغير رسمية، تتنافس على التحكم في التسعير والتصدير والعوائد.
وأوضح سيد أحمد الذي شغل منصب المدير العام لعدة مصارف كان آخرها بنك تنمية الصادرات، أن قرار المحافظ السابق في منتصف عام 2024 بحصر صادر الذهب عبر البنك المركزي واجه مقاومة شرسة من الأطراف المستفيدة من التهريب والفروقات السعرية،
فتحول القرار من إجراء اقتصادي إلى معركة نفوذ بين البنك المركزي وتجار الذهب ومؤسسات نافذة، وانتهت تلك المواجهة بإقالة المحافظ في أكتوبر الماضي.
كما عبر الخبير عن اعتقاده بأن من بين الأسباب الجوهرية كذلك غياب الإطار القانوني الذي يضمن استقلالية البنك المركزي، إذ لا يحدد القانون الحالي بوضوح شروط إقالة المحافظ أو مدة ولايته، ما يجعله عرضة للعزل بقرار إداري دون مساءلة أو تبرير.
وأكد أن هذا الفراغ القانوني أضعف من الاستقلالية المؤسسية للبنك، وجعل المنصب أداة في الصراعين السياسي والاقتصادي، خاصة بعد الانقلاب والحرب الجارية.
وأكد أن من أبرز أوجه الأزمة غياب الشفافية في ملف صادر الذهب، إذ “لا توجد منصة رسمية موحدة لتوثيق بيانات إنتاج وتصدير الذهب، وكل جهة سواء بنكاً أو جهازاً رسمياً أو شركة تعدين تمتلك أرقامها الخاصة. ما يخلق غموضاً متعمداً ويضعف المساءلة العامة. ويفتح الباب أمام صراعات نفوذ حول من يملك المعلومة ومن يتحكم في السعر، مشيراً إلى أن كل المؤشرات والأرقام والمصادر تتحدث عن أن مابين 50 ــ 80% من الذهب المنتج يتم تهريبه.
مصداقية البنك المركزي
وحول تأثير قرارات تغيير المحافظ باستمرار على النظام المصرفي والمستثمرين ومصداقية البنك، عبر سيدأحمد عن اعتقاده بأن تغيير المحافظ كل عامين أو أقل من ذلك يفقد البنك المركزي ذاكرته المؤسسية ويجعل كل سياسة قصيرة العمر والقرارات تتغير قبل أن تؤتى نتائجها فيحدث اضطراب تنظيمي دائم داخل القطاع المصرفي.
وقال إن البنوك الأجنبية والمراسلون الماليون يراقبون استقرار القيادة قبل توسيع حدود الائتمان أو فتح حسابات جديدة وعندما تتكرر الإقالات تدرج السودان ضمن الدول عالية المخاطر وترفع كلفة التحويلات الخارجية وتجمد حسابات المراسلون “إذا كانت أصلا موجودة”.
وأضاف أن المستثمرون المحليون والأجانب يفقدون الثقة في استقرار اللوائح والسياسات النقدية، وتتراجع التدفقات الاستثمارية وتتوقف برامج إعادة الإعمار أما المصارف المحلية فقال إنها تعاني من تغيير التعليمات المتكررة في التمويل والاحتياطي ويربك إدارتها ويضعف استقرارها التشغيلي.
وفي تقييمه لقرار قصر تصدير الذهب عبر البنك المركزي، قال سيد أحمد إن القرار من حيث النية كان يستهدف ضبط الحصائل وتقييد التهريب واستعادة السيطرة على موارد النقد الأجنبي، لكنه أبطأ من حيث التنفيذ بتحويل البنك المركزي من جهة رقابية إلى جهة تشغيلية، ما خلق تضارب مصالح وإضعاف دوره كمُنظم للسوق.
وأضاف أن المزايا النظرية للقرار — مثل توحيد المنفذ الرسمي وتقليل التسرب وضمان دخول حصائل الصادر، لكنه اعتبر أن العيوب العملية كانت أكبر لغياب الكفاءة التجارية وضعف التسعير، وإشارات سلبية للمستثمرين”.
البديل سوق منظم للذهب
وأوضح الخبير المصرفي عمر سيدأحمد أن البديل الأنسب لمعالجة الأزمة، هو إنشاء سوق منظم للذهب عبر بورصة وطنية ترتبط بمصفاة محايدة ومنصة تداول رسمية “مزاد إلكترونية”، مع ترخيص مصدرين مؤهلين وفق معايير الامتثال والشفافية، وضمان إعادة حصائل الصادر عبر النظام المصرفي، لتحقيق نموذج اقتصادي يوازن بين الشفافية والانفتاح دون احتكار أو تقييد.
وأشار سيد أحمد إلى أن المطلوب لاستقرار القيادة والسياسات النقدية هو تعديلاً عاجلاً لقانون بنك السودان بحيث تُحدد مدة ولاية المحافظ بست سنوات غير قابلة للتجديد، وعدم عزله إلا لأسباب قانونية واضحة ومعلنة.
كما دعا إلى إنشاء مجلس للسياسة النقدية يضم خبراء مستقلين، ونشر بيانات مختصرة بعد كل اجتماع، مع فصلٍ تام بين الدور الرقابي للبنك المركزي والدور التجاري للجهات التنفيذية الأخرى.
وشدد على أهمية تعزيز المراجعة الداخلية وتعيين مدقق خارجي مستقل، وتحديد مدة ولاية النواب بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع تداخل مددهم لضمان الاستمرارية المؤسسية.
كما أوصى بنشر تقارير شهرية حول إنتاج الذهب وحصائل الصادر، وإنشاء منصة إلكترونية موحدة للشفافية، إلى جانب إصدار حزمة من القرارات الاستقرارية خلال 12 شهراً بعد وقف الحرب،
تشمل تعديل عاجل لقانون بنك السودان المركزي واتفاقاً مؤسسياً مكتوباً بين بنك السودان ووزارة المالية لتنظيم إدارة حصائل الصادر، وتعهد حكومي بعدم التدخل في السياسات النقدية، إضافة إلى تحديث منظومة الامتثال المصرفي إشتراطات “أعرف عميلك”، وقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال وتفعيل برنامج التواصل المؤسسي الذي يصدر تقارير التضخم وسعر الصرف بشكل دوري.
أزمة بنيوية
وخلص الخبير المالي والمصرفي عمر سيدأحمد إلى القول إن إقالة محافظ البنك المركزي في أكتوبر 2025 لم تكن حدثاً عابراً، بل انعكاساً لأزمة بنيوية في استقلالية البنك المركزي، مشيراً إلى أن كثرة الإقالات يجعل الجهاز المصرفي يعمل دون بوصلة واضحة، ويفقد السودان ثقة المستثمرين والمراسلين الماليين في الخارج.
وأكد أن الطريق الوحيد للإصلاح هو ترسيخ الاستقلال المؤسسي والقانوني للبنك المركزي، وفصل السياسة النقدية عن الصراعات التجارية، مع اعتماد نموذج السوق المنظم للذهب ليعود البنك المركزي إلى موقعه الطبيعي كحارسٍ للاستقرار المالي.


and then