د. الشفيع خضر سعيد: (طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ ) !!

أحاديث المجالس في السودان، تسيطر عليها أخبار الصراعات بين أجنحة، أو جناحي، المجموعة الحاكمة، وكيف أن كل طرف يحفر …

د. الشفيع خضر

د.الشفيع خضر سعيد

 

أحاديث المجالس في السودان، تسيطر عليها أخبار الصراعات بين أجنحة، أو جناحي، المجموعة الحاكمة، وكيف أن كل طرف يحفر للآخر ويعد العدة ليتَغَدَّى به قبل أن يتعشى به هذا الآخر. وما دمنا لم نسمع أو نر أحد هذه الأطراف المتصارعة يتبنى مشروعا مغايرا لمشروع الحزب الحاكم، ويسعى لإنقاذ البلاد من الانهيار، فيحق لنا تأكيد الاستنتاج بأن هذه الصراعات محتدمة حول كرسي السلطة وحماية المصالح، وأن الأجنحة المتصارعة عميت بصيرتها تماما عن الأخطار المحدقة بالوطن، ولم تعد ترى إلا ما يهددها هي شخصيا، وأي جناح يخرج من هذا الصراع منتصرا، لن يحل أزمة الوطن.

وبالرغم من ذلك، إذا تبدى لنا، في أي وقت، أن أحد هذه الأجنحة المصطرعة تاب وثاب إلى الرشد، وبات مقتنعا بأن ما شارك فيه من سياسات وممارسات على وشك أن يؤدي بالبلاد إلى التهلكة، وأبدى استعداده للمساهمة في صنع الترياق المضاد للانهيار، وتقدم بطرح يتوافق، ولو في عمومياته فقط، مع ما ندعو له من مشروع سياسي بديل لإنقاذ الوطن، فقناعتي أن نمد له أيادينا. فلقد آن أوان مراجعة القناعات..! ومع تفاقم الأزمة، أضحت الدولة السودانية على أبواب الانهيار. وهذا الوضع لا يحتمل المكابرة والإنكار من الحكام، مثلما لا يحتمل المماحكات والمكايدات وسياسات التجريب والتكتيكات غير المدروسة. وهو وضع يصرخ فينا بالبدء فورا لمقاومة الانهيار. وعلى المستجيبين لهذه الصرخة، من كل الضفاف، أن يتجمعوا ويتناسوا، أو يؤجلوا، تناقضاتهم السياسية والفكرية، ليتوافقوا على كيفية إنقاذ الوطن. لقد ظلت النخب السياسية في السودان، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلة، لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وإقليمية مفهومة، وعليها الآن أن تعي حقيقة أن الوطن يترنح آيلا للسقوط، والخطر الداهم يتهدد الجميع، وأن التفكير السليم يقول بان ما يجمعها من مصالح، في الحد الأدنى الضروري للحياة ولبقاء الوطن، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لمنع الطوفان.

والمشروع السياسي البديل لحماية السودان من الانهيار، من المستحيل أن تنجزه الإنقاذ، مجتمعة، أو بواسطة أحد أجنحتها، مثلما لا يمكن أن ينجزه فصيل أو فصيلان من القوى السياسية الأخرى. كما أن صياغة وإنجاز المشروع لا تقتصر على النخب والقيادات السياسية وحدها، وإنما هي مهمة الشعب بكل فئاته وشرائحه، كل له دور وعليه واجب مستحق. وكما أشرنا سابقا، يساهم في صياغة المشروع السياسي البديل، السياسيون والتكنوقراط والمجتمع المدني والعسكريون في الجيش والقوات النظامية الأخرى، وسائر قطاعات المجتمع، وتعمل على تنفيذه كفاءات وطنية يُجمع الناس على أهليتها ونزاهتها واستعدادها التام على تغليب الانتماء القومي على حساب أي انتماءات ضيقة خاصة بها.

ضربة البداية هي توافق الجميع على تفاصيل محتوى المشروع السياسي البديل، وذلك عبر آلية قومية تضم ممثلين عن القوى السياسية والمجتمع المدني والعسكريين النظاميين والشخصيات الوطنية المجمع عليها. ومن جانبنا، نرى أن الملامح العامة لهذا المشروع، تتضمن:1- الاتفاق على فترة انتقالية، لأربع أو خمس سنوات، يحكمها الدستور الانتقالي الحالي، والمجاز على ضوء اتفاق السلام الشامل، مع مراجعة التعديلات التي أدخلت بموجب نتيجة الاستفتاء وانفصال الجنوب. أما أي تعديلات لاحقة تمت بعد ذلك، فيتم مراجعتها وإسقاط ما لا يجمع عليه. وبالطبع، قد يقتضي الواقع الانتقالي المقترح التوافق على تعديلات جديدة، ضرورية لتسيير وضبط الفترة الانتقالية. 2- التوافق على قيادة تنفيذية انتقالية للبلاد أساسها الكفاءة والنزاهة، وبعيدا عن أي ترضيات أو محاصصات سياسية، ويكون من الأفضل أن تبتعد الأحزاب والقوى السياسية عن الجهاز التنفيذي وتكتفي بمراقبة سير تنفيذ المشروع السياسي البديل. 3- تتولى الآلية القومية المشار إليها، الدور التشريعي والرقابي خلال الفترة الانتقالية. 4- تُشكل لجان أو مفوضيات قومية لمراجعة كل أجهزة الدولة وتحقيق قوميتها وعدم التغول الحزبي داخلها.

هذه الترتيبات الانتقالية المقترحة، والخاصة بشكل الحكم الانتقالي من رئاسة وحكومة وآليات تشريع ومفوضيات قومية وخلافه، لا نصرّ عليها بالشكل الوارد أعلاه، مثلما لا نصرّ على مقترح ما بعينه، بقدر ما نؤكد استعدادنا لقبول أي مقترح آخر يتبنى الفكرة ويعمل على تنفيذها، مادام جوهره جهازا انتقاليا بديلا للجهاز الحاكم اليوم والذي أثبت فشله، جهاز جديد يتمتع بالكفاءة والنزاهة، ومتشبعا بروح التصدي لانهيار الدولة السودانية. وبالطبع، لا يغيب عنا أن الأمر برمته يخضع لمنطق المساومة والتنازلات، وهو منطق نرحب به بشدّه مادام في النهاية، الرابح هو الوطن. ومن زاوية أخرى، لا يمت حديثنا هذا بأي صلة مع أي فهم يدعو لوقف الاحتجاجات السلمية، بمختلف أشكالها، ضد الغلاء وشظف العيش وضد القمع والعسف لمجرد الاختلاف في الرأي، مثلما لا يمت بأي صلة مع أي فهم يثبط من همم التغيير الشامل لأوضاع البلاد، فبالتغيير وحده يمكننا منع الانهيار، وما ذهبنا إليه في هذا المقال، يصب في هذا الاتجاه من زاوية أن السياسة هي فن الممكن.

أعتقد أن الأمر الجوهري الذي نراه، ونعتقد أن أغلبية الشعب السوداني تراه مثلنا، هو الاتفاق، أو عدمه، مع فكرة أن الوطن آيل للسقوط، وأن نظام المؤتمر الوطني لا يملك أي قدرة على منع ذلك. بل، ومع كل صباح جديد يظل فيه هذا النظام ممسكا بدفة القيادة، سيقترب الوطن أكثر وأكثر من قاع الهاوية. ونحن، حتى اللحظة لا نجد سببا يجعلنا ألا نتفق مع مقولة البرت آينشتين الشهيرة «لن نقدر على حل المشكلة بنفس العقلية التي تسببت فيها». فيا أهل الإنقاذ، حكّاما وسدنة، أفيقوا وَاسْتَفِيقُـوا يرحمكم الله، فقد «طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ»!!. أما الوجه الآخر والمكمل لهذا الأمر الجوهري، فهو أننا لا ننتظر حلولا معلبة تأتينا من خارج الحدود، وان إرادة الشعب السوداني لا غالب لها.

نقلا عن القدس العربى .