كمبالا: أمستردام : 19 أكتوبر 2025: راديو دبنقا
في الفاشر، لم يعد الجوع خبراً يُروى، بل حياة يومية تُعاش على حافة الموت، تتصاعد من أحياء المدينة روائح الجلود المحترقة، جلود حيوانات تشوي على النار لا بحثاً عن طعم أو شبع، بل أملاً في النجاة… يوزعون قطع الجلد على أطفالهم كوجبة وحيدة في أيام طويلة امتد فيها الجوع أكثر من الصبر. هذا ما آلت إليه الحياة بعد أكثر من خمسمائة يوم من الحصار، حيث لم يعد في المدينة ما يُؤكل، ولا سبيل للحصول حتى على “الأمباز” الذي كان آخر ما تمسّك به الناس لدرء الموت.

وسط هذا المشهد القاسي، تتردد أصوات النساء في مقاطع مصورة تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، لقطات لمواطنين يحرقون جلود الأبقار على النار، وامرأة مسنة تبكي بحرقة لفقدان ستة من ابنائها بسبب الجوع، وسيدة ستينية تذرف الدموع وتناشد الحكومة بإسقاط الطعام جواً بدلاً من السلاح. تقول بصوت متهدج: “المسلم ما بعذبوه بالجوع… الزول لو ما شبعان بحارب؟، نزلوا لينا أكل، أولادنا انتهوا.” وتؤكد ان إسقاط السلاح لا يغني عن الطعام.

ومع نفاد القوت وغياب أي تدخل، تحولت الفاشر إلى بقعة محاصرة بالخوف والجوع والموت، فيما يتواصل القصف بلا توقف وقد وثق مرصد (مشاد) قبل يومين مقتل 146 مدنياً نتيجة القصف العشوائي الممنهج من قوات الدعم السريع ضد الأحياء السكنية، وعمليات التصفية المباشرة للمدنيين أثناء محاولتهم الفرار، بينهم 41 طفلاً دون سن الثامنة عشرة، كما أُصيب أكثر من 97 مدنياً بجروح متفاوتة بينهم 38 طفلاً، واختطفت 14 سيدة وفتاة، من بينهن خمس طفلات. ولم تقتصر الانتهاكات على القتل والإصابة، بل شملت تدمير ثلاثة مرافق صحية وأربع مساجد وعشرات المدارس والمنازل، في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.

دبنقا ترند : الجوع في الفاشر

وفي محاولةٍ عسكرية جريئة نفذ الجيش عمليات إسقاط جوي للفرق المحاصرة داخل الفاشر كان آخرها عملية إسقاط مظلي للفرقة السادسة مشاة في السابع من أكتوبر الجاري، بعد نجاح سابق في 29 سبتمبر.بعد انقطاع دام 7 أشهر منذ آخر عملية مماثلة في ابريل الماضي، هذه الخطوات أعادت أملاً محدوداً لدى بعض الأهالي بأن ثمة تحركاً لقلب المعادلة، لكنها لم تنه معاناة السكان أو تضع حداً للحصار، فالإمداد الجوي على وقع القتال لا يغني عن فتح ممرات آمنة ومستدامة لوصول المساعدات الإنسانية الأرضية وحماية المدنيين.

تنسيقيات المقاومة والناشطون يؤكدون أن ما يجري في الفاشر ليس مجرد نقص في الغذاء بل سياسة تجويع وممارسة عنف منظم أدت إلى موتٍ بطيء. يكتبون ويصرخون بملء الصوت: لا طائرات لا مساعدات ولا جسر إنساني، لا تحرك دولي حقيقي، والطرق مقفلة من كل اتجاه.

ويتساءلون : كيف وصلنا إلى هذا الذل الذي يحول علف الحيوانات إلى طعامٍ لأطفالنا؟ كيف قبلنا أن يصبح “الأمباز” وجبةً بديلةً بدلاً من أن يكون وصمة عار في جبين المسؤولين؟ أين ضمائر القيادات التي أوصلت الوطن إلى حافة الهاوية، وقادة تتبارى في الخيانة ويتقاسمون الكراسي بينما عظام الصغار تذوب من سوء التغذية وأمهاتهم يبكين على جراب فارغ؟ أي حكم هذا الذي يترك شعبه يُباد، وأي وطنٍ هذا الذي يسلم أطفاله للمجاعة؟

كم طفلاً يجب أن يموت كي تستيقظ الضمائر؟ كم جثة هزيلة تحتاجها القيادات لتدرك أن “الأمباز” ليس مجرد طعام بائس بل دليل فشل ووصمة لا تُمحى، وأن دماء الأبرياء ستلاحق من خانهم إلى الأبد؟

أما على منصات التواصل، فيعلو الدعاء”اللهم برداً وسلاماً على أهل الفاشر” ” اللهم كن لهم عوناً ونصيراً، وارفع عنهم هذا البلاء” وتهمس أمهات الفاشر بذات الدعاء كل مساء، قبل أن ينام أطفالهن على بطون خاوية وأمل بأن يأتي الغد محملاً ببعض من الخبز، أو رحمة من السماء.

أطفال ونساء في انتظار الحصول على الطعام في احدي تكايا الفاشر- وسائل التواصل

Welcome

Install
×