خبير قانوني: كي تفي الحكومة بوعودها عليها مراجعة لجنة فض الاعتصام

في وقت تتعالي فيه احتجاجات أسر الشهداء على تجاهل آلامهم، والتباطؤ الذي يحسه البعض في تحقيق العدالة ومحاسبة المسئولين وتسليم البشير للجنائية، يتساءل الكثير من المهتمين إن كان السودان سيخرج مرة أخرى من عزلته ويحصل على ما ينتظر من دعم لانجاح الفترة الانتقالية.

في وقت تتعالي فيه احتجاجات أسر الشهداء على تجاهل آلامهم، والتباطؤ الذي يحسه البعض في تحقيق العدالة ومحاسبة المسئولين وتسليم البشير للجنائية، يتساءل الكثير من المهتمين إن كان السودان سيخرج مرة أخرى من عزلته ويحصل على ما ينتظر من دعم لانجاح الفترة الانتقالية.

أدناه رأي الاستاذ محمد عثمان، ناشط قانوني يعيش في ألمانيا، في المقال الذي نشرته له صحيفة الواشنطون بوست بتاريخ الأمس 25 نوفمبر 2019

بقلم: محمد عثمان

في ظهيرة غائظة من شهر مايو بالخرطوم، بعد أقل من شهر من الاطاحة بالرئيس عمر البشير، التقيت خريجا جامعيا في التاسعة والعشرين من عمره في خيمة يستخدمها المعتصون من دارفور كمركز لهم في ميدان الاعتصام  بالقرب من قيادة الجيش. أصر المعتصمون وقتها على البقاء أمام مقر القيادة حتى يتم تسليم السلطة للمدنيين.

أخبرني الشاب أنه كان يخشي أن يتم نوع من المساومة بين الساسة والجيش من قبيل " دعونا نمشي الأمور".. ثم أضاف:

الكل هنا في اعتصام القيادة لديه قصة مع نظام البشير، وهذه القصص يجب الاستماع إليها، ويجب أن يرى أصحابها العدالة وهي تتحقق". ولكن بعد مرور كل هذه الشهور، ظل سؤال المحاسبة وتحقيق العدالة قائما.

كان التوتر يتصاعد بسرعة في شهر مايو 2019 مع محاولة قادة العسكر فض الاعتصام بواسطة قوات الدعم السريع التي تستخدم الذخيرة الحية ضد المحتجين. في الثالث من يونيو تم الهجوم على المعتصمين وفض الاعتصام. في ذلك اليوم الدموي وما تلاه من أيام تم قتل أكثر من 120 شخصا، وجرح المئات، وارتكاب العديد من حالات الاغتصاب.

واصل المحتجون تظاهراتهم مطالبين بالحكومة المدنية رغم موجة العنف التي تفجرت في الثلاثين من يونيو 2019. ولكن في السابع عشر من أغسطس توصل المدنيون والعسكر على تقاسم السلطة في مرحلة انتقالية طولها 3 سنوات تعقبها انتخابات حرة. لم يكن ذلك بالاتفاق المثالي ولكن الاتفاق أعطى الانطباع بأن مطالب المتظاهرين تم سماعها والاستجابة إليها.

في أولى خطواته بعد استلام الوزارة، التقى رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بأسر شهداء ثورة ديسمبر. بعد شهر من هذا اللقاء تم تكوين لجنة التحقيق في مجزرة فض الاعتصام التي حدثت في 3 يونيو 2019 والتي تم الاتفاق على قيامها في نص الوثيقة الدستورية التي نظمت تقاسم السلطة. سمى حمدوك عندها أعضاء اللجنة التي ستشرف على التحقيق، وفي شهر أكتوبر أعلن النائب العام أن اللجنة سيكون لها صلاحيات واسعة للتحقيق.

ولكن أسر الشهداء والنشطاء في مجال الحقوق والقانون أبدوا قلقهم  حول التأخير الشديد الذي لازم تكوين اللجنة ومحدودية صلاحياتها، مسألة استقلاليتها ونقص الخبرة لدى أعضاء اللجنة، خاصة فيما يتعلق بالعنف الجنسي والاغتصاب. بقى الانتظار لمعرفة اذا ماكانت اللجنة ستدعم بالخبراء و تحصل على الصلاحيات القانونية اللازمة كي تؤدي مهمتها على مستوى المعايير الدولية الأساسية.

تواجه الحكومة الانتقالية العديد من التحديات. اتفاق تقاسم السلطة لم يسمح بتفكيك مراكز وبنى النفوذ الموروثة من النظام السابق. الآلة العسكرية والأمنية التي كانت ذات يوم من أدوات القمع التي يستخدمها البشير، ما زالت موجودة. كما أن اتفاق تقاسم السطلة سمح للعسكر ومن ضمنهم محمد حمدان دقلو حميدتي، بتولي السيطرة على مقاليد الأمور خلال الـ 21 شهرا الأولى من عمر الفترة الانتقالية.

هذه الأيام يشير الناس إلى أن حميدتي هو الحاكم الفعلي للسودان. يرد ذكره في العديد من قوائم الانتهاكات التي حدثت في السودان. ارتكبت القوات التابعة له العديد من الجرائم والانتهاكات الفظيعة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، تشمل هذه الانتهاكات فيما تشمل حرق المساكن والممتلكات الخاصة بالمدنيين، واغتصاب النساء والصبايا في الحملات الوحشية التي جردها النظام السابق لمكافحة التمرد.

نجح حميدتي في تجنب المساءلة والملاحقة بوضع نفسه وقواته في مركز الديناميات المحلية، الاقليمية والدولية. قاتلت قواته في اليمن بجانب السعودية والإمارات خالقا لنفسه مأثرة لدى دول الخليج. كما يدعي حميدتي بأن قواته تحارب الهجرة غير الشرعية، كجزء من البرنامج الأوربي لمكافحة الهجرة غير الشرعية، ما يعني أن التمويل الأوروبي يذهب لقوات معروفة بممارسة الانتهاكات.

نفى حميدتي التخطيط والموافقة على الهجوم الذي أدى لفض الاعتصام. اعترف القادة العسكريين وقتها بارتكاب أخطاء، وتم تشكيل لجنة تحقيق بواسطة النائب العام السابق، خلصت لنتائج تم رفضها وانتقادها على نطاق اواسع بواسطة المحتجين، حيث ألقت لجنة التحقيق بالمسئولية على حفنة من الضباط المارقين.

ولكن الأدلة المتوفرة من تسجيلات الفيديو أظهرت وجود قوات من الدتم السريع بزيها المعروف وهي تهاجم المعتصمين لفظيا وجسديا. أخذت القوات ما يكفيها من الوقت للقتل والحرق وضرب المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش دون أن تتوفر أي حماية للهاربين الخائفين منهم.

دول الترويكا، الولايات المتحدة، بريطانيا والنرويج، والتي ساعدت مع الاتحاد الأوروبي والوحدة الأفريقية، في التوصل لاتفاق اقتسام السلطة، أدانت هجوم فض الاعتصام، وشددت على محاسبة المسئولين عنه.

بعد خمسة أشهر من تنصيبها لم تحرز الحكومة الانتقالية سوى القليل من التقدم الذي يمكن تلمسه، فيما التزم المجتمع الدولي، وخاصة الدول المانحة، الهدوء. كان عليه أن يضع دعمه خلف عملية المحاسبة وتحقيق العدالة، وهما حجر الأساس لعملية الانتقال المتوخاة نحو الديمقراطية وحقوق الانسان.

تحقيقا لهذه الغاية كان على المجتمع الدولي والدول المانحة تبني معايير حقوق الانسان في تعاملهم مع حكام السودان الجدد، واهتبال كل سانحة لتذكير الحكومة، خاصة المكون العسكري منها، بما هو على المحك.

خلال كل ذلك تواصل أسر الشهداء والجرحى المطالبة بتحقيق العدالة. وإذا ارادت الحكومة الانتقالية الايفاء بوعدها، عليها مراجعة تفويض لجنة التحقيق في فض الاعتصام، والتأكد من استقلاليتها، والاستماع لأسر الشهداء ومخاوفهم. كما يجب عليها الاستعانة بخبرات من دولية واقليمية.

العمل بغير ذلك سيؤكد مقولة ذلك الشاب الخريج أمام القيادة:

" دعونا نمضي للأمام ونتناسى جراح الماضي" الأمر الذي لن يسمح به السودان وشركائه الدوليين.