خبراء: محاكمة كوشيب تعززعدم الافلات من العقاب لكنها عقوبة واحدة لجرائم متعددة..!
Sentencing in the former Janjaweed commander Ali Muhammad Ali Abdelrahman, known as ‘Ali Kushayb’ case. Trial Chamber I delivers its judgment against Kushayb during a public hearing at the ICC in The Hague on December 9, 2025 (Photo: ICC)
امستردام: 16/ ديسمبر/2025م راديو دبنقا
تقرير: سليمان سري
أسدلت المحكمة الجنائية الدولية الستار على قضية القائد السابق في مليشيا “الجنجويد” علي عبدالرحمن الشهير بـ “علي كوشيب”، بعد إدانته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد أثار قرار المحكمة بإنزال عقوبة السجن المؤبد لعشرين عاماً، جدلاً واسعاً برغم الترحيب الواسع بقرار المحكمة بداية من ضحايا العنف في دارفور، والقانونيين والحقوقيين والسياسيين، استناداً على تعزيز عدم الإفلات من العقاب، ومبدأ العدالة مهما طال الزمن.
بينما أعاب خبراء قانونيين ومحاميين قرار الحكم بأنه لم يكن رادعاً لعدم إصدار عقوبة مستقلة لكل جريمة، بدلاً من عقوبة واحدة لجرائم متعددة. وفتح قرار الحكم الباب أمام طرح الأسئلة المتعلقة بأداء المحكمة ومكتب الإدعاء الجنائي.
ويرى الخبير القانوني والقاضي السابق سيف الدولة حمدنا الله أن الملاحظة الأولية لهذه المحاكمة، أنها تمت بأيدي “قضاة أجانب” عن جرائم وقعت داخل الأراضي السودانية متهم بارتكابها مواطن سوداني.
ويقول في حديثه لـ”راديو دبنقا”: إنَّ هذا الحكم الصادر في مواجهة علي كوشيب بمعاقبته بالسجن المؤبد “عشرين عاماً”، بالطبع يقطع ألسن كل الذين ظلوا يرددون بلا إنقطاع بأن القضاء وأجهزة العدالة السودانية، قادرة ومقتدرة وراغبة في محاكمة نوع الجرائم التي إرتكبها “كوشيب”، وهي بطيبعة الحال، كما هو معروف، جرائم فظيعة وتتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ويضيف بقوله: لا أحد يُجادل في حقيقة أن كوشيب لم يرتكب لوحده هذه الجرائم التي ضحاياها يتجاوز مئات الآلف خلال حرب دارفور في فترة حكم الإنقاذ، ويتسائل: فأين بقية مئات المجرمين الذين شاركوا “كوشيب” في تلك الجرائم، والذين لايزالون طلقاء ويعيشون حياة عادية لم يتم التحقيق معهم ولم تطالهم إجراءات ملاحقة العدالة السودانية، برغم أنها تذخر بمئات الرجال والنساء الذين يُشاع أنهم راغبون وقادرون على محاكمتهم.
ويعتقد الخبير القانوني بأن هذا الحكم يرسل أول إشارة في موضوع محاكمة كوشيب أن أجهزة العدالة المحلية “نيابة وقضاء” ليس صحيحاً أنهما راغبتان وقادرتان في محاكمة هذا النوع من الجرائم المتعلقة بجرائم الحرب، والإبادة الجماعية التي وقعت في دارفور وغيرها من المناطق.
لايتناسب مع الجرم:
ويعتقد الخبير القانوني والقاضي السابق سيف الدولة حمدنا الله أن الحكم الصادر ضد كوشيب بالسجن 20 سنة، لا يتناسب مع طبيعة “الجرائم البشعة” التي ارتكبها كوشيب من جرائم القتل والتعذيب والحرق والإغتصاب، ويقول: في تفسير المحكمة لتوقيع هذا الحكم غير المناسب قالت إنَّ الرجل طاعن في السن وهو يبلغ 76 سنة مراعاة للجانب الإنساني.
ويضيف حمدنا الله بقوله: اطلعت على آراء بعض الزملاء تحدثوا عن أن فترة الـ 20 عاماً كافية، باعتبار ان عمره الحالي 76 سنة أي بعد 20 عاماً يمكن أن يلقى ربه قبل تاريخ الإفراج عنه، واذا لم يمت في السجن قبل الافراج عنه سيكون قد بلغ الـ 96 عاماً.
ويرى أن هذه، بالطبع، فكرة غير صائبة والصحيح يفترض أن تصدر المحاكم العقوبة التي تتناسب مع الفعل، بصرف النظر عن هذا الاعتبار لمثل هذا العنصر في التخفيف، ويقول: لان العقوبة تعكس للمجتمع الفداحة التي ارتكبها الشخص.
ويقول: من هنا تأخذ كثير من تشريعات الدول التي تصدر أحكام بالسجن تصل لأكثر من 150 إلى 200 عام في جرائم القتل، مع ظروف مُشدًدة كالتي يكون ضحيتها أطفال أو القتل المتعدِّد أو التمثيل بالجثة، كما توقّع على المجرمين عقوبة السجن المؤبد المتكرر بتعدد عدد ضحايا الجريمة.
ويضيف: على سبيل المثال إذا قام شخص بارتكاب جريمة القتل في مواجهة أربعة أشخاص، فإن المحكمة تحكم على الشخص القاتل بالسجن المؤبد أربعة مرات، ويشير إلى أن هذا الأمر يؤيد نظرية أن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع الفعل بصرف النظر عن أن المحكوم سيقضي فترة العقوبة أم لا.
ويؤكد الخبير القانوني بأن هذه العقوبة تعطي إشارة للمجتمع في أن الفداحة التي تم ارتكاب الجريمة بها تستحق العقوبة المناسبة، مشيرا إلى أن لاأحد سيعيش 150 عاماً وبطيبعة الحال حين يحاكم يكون عمره مابين 30 ــ 40 عاماً.
ويشير إلى أن “كوشيب” “محظوظ” بأنه سيقضي فترة العشرين عاماً في غرفة مهيأة وملحقة بكآفة الوسائل والخدمات ومرتَبة بها جهاز تلفزيون ويمكنه مطالعة الصحف والمجلات والانترنت وإجراء المحادثات الهاتفية مع الأهل والأصدقاء.
ويقول حمدنا الله: كان الطبيعي لكوشيب وأمثاله أن تتم محاكمتهم في السودان الذي به عقوبة فعلاً فيها جزاؤه هي القصاص وليس السجن بـ 20 أو 50 سنة، إذا تمت الإدانة بالإجراءات القانونية السليمة.
لكن هذا قدر السودان، كما يضيف، أن يكون حكامه والأنظمة التي تسعى إلى إفلات المجرمين من العقاب، وبالحد الذي يجعل المجتمع الدولي والأجهزة الأممية هي التي تقوم بالدور المفروض أن تقوم به أجهزة العدالة الوطنية. وعبر عن أمله أن ينبزغ فجر الحرية مرة أخرى أن يعود الحكم الديمقراطي الذي يضمن أن تكون هنالك عدالة حقيقية وليس عدالة مزيفة كالتي تجري الآن.
القضاء الوطني:
ويتفق القاضي السابق محمد الحافظ مع رأي حمدنا الله، ويقول: “كنا نتمنى أن يكون قضاؤنا بخير بمعنى أن يكون مستقلاً وقادراً وراغباً فى التصدى لمثل هذه المحاكمات، سواء محاكمة علي كوشيب وغيره من الذين ولغوا فى دماء أهل السودان”.
ويعتقد في حديثه لـ”راديو دبنقا” أن العدالة إنما تتحقق فى احسن حالتها وطنياً لاعتبارات الواقع المحلى ووفق تقاليد البلاد وأعرافها وقيمها السائدة، لا سيما أن إرساء العدل من أهم وظائف الدولة منذ نشأتها عبر القرون كما فكرة الردع العام، انما تستوفى قدرها على الوجه الأكمل بقيام القضاء الوطنى بدوره على الوجه المطلوب وفق ما كان عليه قبل عام 1989م.
ويقول الخبير القانوني:"وحيث أن ما لايدرك كله لا يترك جله" فإن العدالة الدولية مطلوبة كضرورة ملحة بالنظر لواقع السودان المعقد،" ويعتقد بأن حكم المحكمة الجنائية الدولية نزل برداً وسلاماً على ذوى الضحايا والضمير الوطنى أياً ما كانت العقوبة.
ويرى أن العقوبة “برغم غلظتها” بمعايير الجهة المصدرة لها، إلا انها قد جاءت مخففة، ويعزي ذلك إلى أن هذا كان مقصوداً به تشجيع الآخرين من الجناة لسلوك ذات مسلك كوشيب فى الاستجابة لأوامر الضبط الصادرة بحقهم، في إشارة إلى البشير ومساعديه.
وبالنظر لجسامة جرم ما اقترفه كوشيب، كما يقول الحافظ، فكان الأوفق إصدار العقوبة الأقصى مع إصدار عقوبة منفصلة عن كل تهمة تمت إدانة الجانى عنها، لا سيما أن عقوبة الإعدام والتى يستحقها كوشيب بلا شك، ليست من بين صلاحيات المحكمة وفق قانونها، وتبقى الحكمة القائلة " شئ خير من لا شئ".
محاكمة منحازة:
غير أن عضو هيئة الدفاع عن الرئيس “المخلوع” محمد الحسن الأمين المحامي، يرى أن المحكمة كانت منحازة تماماً للاتهام وجعلت من التحريات وأقوال الشهود، الذين صرفت عليهم المحكمة مبالغ ضخمة مما جعل بعض الشهود يشهدون بما لم يشهدوه، ولم تهيأ للدفاع الفرص التي وجدها الادعاء.
ويقول الأمين في حديثه لـ”راديو دبنقا”: لقد كان وجود كوشيب بعيداً عن موقع الأحداث التي اتهم بها إضافة إلى الفارق الزمني للأفعال التى اتهم بها ووقت المحاكمة بما جعل من الصعب على المتهم ان يجد أساسيات الدفاع أو الشهود لتلك الفترة ولم تقدم المحكمة أي عون في ذلك بينما سعت وأنفقت على قضية الإدعاء أموالاً طائله.
ويضيف الأمين بقوله: إنًّ أحداثاً مؤسفة قد وقعت فعلاً وهى تشكل جرائم وفق قانون روما الأساسي، لكن ربط المتهم بهذه الأحداث كفاعل لها أومشارك وفق معايير الإثبات لم يتحقق.
ويعتقد بأن المحكمة الجنائية الدولية بفشلها لفترة طويله في أي محاكمة لمتهمين للجرائم الأربعة التى تختص بها، حرصت على أن تكون هذه المحاكمة بداية لنجاحها دون مراعاة لمعايير العدالة بين الإدعاء والدفاع.
دلالات القعوبة:
ويرى نصر الدين يوسف المحامي: أن هذا الحكم يكمل الصورة المتعلقة بالادانة ويؤكد انه مهما كانت العقوبة، فطبيعة الجرائم التي أدين بها تقتضي ان ينال عقاباً مناسباً لحجم هذه الجرائم وخطورتها ودلالتها، ويبين مهما كانت مدة العقوبة اعتقد ان الحكم جاء ربما يكون مراعياً لبعض الظروف المخففة الخاصة بالمدان.
ويقول يوسف في حديثه لـ”راديو دبنقا” أنا في اعتقادي أن الإدانة والعقوبة لكوشيب لهما دلالات كبيرة، بغض النظر عن المدة، أهمها أنها تقر مبدأ عدم الافلات من العقاب “للجرائم الشنيعة” التي ارتكبت في دارفور”.
كما يضيف، بأن العقوبة برغم طول المدة من ارتكاب الجرائم منذ 2003 و2004 م، لكن جاءت الإدانة والعقوبة بعد أكثر من عشرين عاماً، بدلالة توضح أنه مهما طال الزمن فإنَّ هذه الجرائم لاتسقط بالتقادم وأن هذه الجرائم بجسامتها وخطورتها.لا بد أن يتم فيها العقاب فلا جريمة بلا عقاب خاصة إذا كانت تلك الجرائم جسيمة وكبيرة وخطيرة.
ويعتبر يوسف أن هذه الإدانة وهذه العقوبة تبعث بالطمأنينة للضحايا في دارفور وتؤكد لهم أنه مهما طال الزمن، فالجناه لن يفلتوا من العقاب ويرى بأن هناك بقية من الجناه مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه العقوبة أيضا توضح دلالات انه يجب ان ينالوا العقوبة المناسبة لجرائمهم الشنيعة التي ارتكبت في دارفور.
بطء المحاكمة:
وحول الخلل الذي لازم سير إجراءات المحاكمة، يقول نصر الدين يوسف المحامي: أن سير العدالة يجب ان يتسم بالسرعة وتحقيق العدالة يرتبط أيضاً بالزمن والعدالة الناجزة مهمة جداً.
ولذلك، كما يرى، أن إجراءات المحكمة اتسمت بالبط وهذا شيء غير إيجابي ومع مراعاة إمكانيات المحكمة في تنفيذ أوامر القبض، وتنفيذ الإجراءات المتعلقة بالإحضار وخلافه لكن أيضاً فعالية المحكمة عبر مكتب الإدعاء العام والمطالبة بتسليم المجرمين وبدء المحاكمة اتسم بالبطء غير الإيجابي.
عقوبة غير رادعة:
من وجهة نظر عضو هيئة محامي دارفور الصادق علي حسن المحامي، المنشورة، في مقال رأي: أن علي كوشيب تحول إلى بطل، بذهابه طواعية إلى المحكمة الجنائية الدولية بنفسه ثم إلى نجم في وسائل الإعلام العالمية، فإلى سجين بلاهاي يتمتع بحقوق قد لا يجدها ضحاياه. ويرى أن العقوبة المقررة بواسطة المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة كوشيب لم تعد لديها أي قيمة رادعة.
لذلك، يعتقد الصادق بأن قضية دارفور من القضايا التي تحتاج إلى بحث ودراسة عميقة عن مآلات هذه المحكمة ودورها ومستقبلها، بعد أن صارت أداة من أدوات التسويف ونافذة لتقنين حالات الإفلات من العقاب.
وبالنظر إلى آداء المحكمة، فقد وجه الصادق انتقادات حادة للمحكمة، التي يرى أن آدائها اتسم بالضعف، ويقول: بدأت المحكمة في فقدان الثقة، وبرزت ظاهرة إعلان الدول عن الإنسحاب استنادا للمادة 27 من نظام روما الأساسي مثل بورندي، والثلاثي (مالي وبوركينا فاسو والنيجر سبتمبر 2025م) وهي أحدث دول تعلن انسحابها بينما تدرس جنوب إفريقيا ذات الخيار، بعد أن كانت أكثر الدول حماساً لتأسيسها.
وأرجع انسحاب تلك الدول نتيجة لعدم ممارسة المنظمات الحقوقية التي تأسست كتحالف يساند المحكمة، بتعزيز دورها من خلال الورش والدورات التدريبية، لكنه يرى أنها اهملت دورها الرقابي على أعمال المحكمة، كما للضعف الذي شاب أداء الإدعاء الجنائي وبروز ظواهر التأثير السياسي.
مثول ثلاثة قادة:
ويشير الصادق إلى أن هنالك ثلاثة من قادة الحركات المسلحة قد مثلو طواعية قبل كوشيب، وذلك بموجب أوامر استدعاء وهم (بحر إدريس ابو قردة، ومحمد صالح جربو وعبدالله بندة) وتم شطب التهم في مواجهة الأول لعدم كفاية الأدلة، وقتل الثاني في أحداث قتالية بدارفور في عام 2013م وتم إسقاط التهم المقيدة ضده للوفاة، وتعليق التهم في مواجهة الثالث بندة.
لكنه يقول: وللمفارقة أن محامي “جربو وبندة” الذي كان يدافع عنهما قد صار هو نفسه مدعياً عاماً للمحكمة الجنائية الدولية. ويضيف بأن المحكمة علقت الإجراءات في مواجهة عبد الله بندة وهو الذي لا يزال يمارس الحرب والقتال في دارفور.
ويعيب الصادق على المدعي العام للمحكمة كريم خان، أنه منذ توليه لمنصبه كمدعي عام بعدم تحريك الإجراءات في مواجهة موكله السابق عبدالله بندة، ويقول: تفادياً لهذا المأزق قام مكتب الإدعاء بتعليق إجراءات محاكمة بندة، ولم يُطالب بمثوله أمام المحكمة منذ تولي محاميه السابق لمنصبه الحالي.
ويتسائل بأنه كيف يمكن اختيار مدعياً عاماً لمحكمة الجنايات الدولية وهو نفسه يمثل الدفاع في قضايا لا زالت منظورة أمام نفس المحكمة، بمثل قضية عبد الله بندة أو قضية يمكن أن تتوافر بشأنها بينات إضافية جديدة قد تقتضي استبعاد حكم الشطب لعدم كفاية الأدلة وإعادة السير في الدعوى بمثل قضية ابو قردة .
كما ينتقد خان بأنه بدأ بالتشكيك في كفاية البينات التي قد تؤدي إلى محاكمة وإدانة المطلوبين (عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هرون)، وصرح في أكثر من مرة بأن التهم المقيدة في مواجهة الثلاثة المذكورين تحتاج إلى تعضيد، ما يعني إعادة الملف لمكتب الإدعاء الجنائي للتحقيق والحصول على المزيد من البينات الإضافية.
ويشير إلى أن مكتبه صار بالفعل يطلب المزيد من البينات ممن تتوافر لديهم شهادات منتجة في القضايا المعنية، وتابع قائلا: وخان يعلم تماماً في قرارة نفسه، بأن إعادة الملف لاستكمال المزيد من البينات قد لا تؤدى سوى للتشكيك في البينات المدونة في محضر التحقيق.
وتوقع احتمال التضارب والتناقض في الشهادات، مثل قضية موكله السابق ابو قردة الذي مكن الدفاع، من الحصول على قرار شطب التهم في مواجهته لعدم كفاية الأدلة بواسطة المحكمة.
ويقول بعد عقدين من الزمان، يظل السؤال الموضوعي من أين يمكن الحصول على بينات إضافية في القضايا المرفوعة ضد البشير وعبد الرحيم وهرون.


and then