حجب التمويل وأزمة السيولة يهددان بفشل الموسم الزراعي بالقضارف

الزراعة في القضارف

الزراعة في منطقة أم قلجة لمحلية وسط القضارف-ديسمبر 2024- منظمة هوب


القضارف – الإثنين 8 سبتمبر 2025 – راديو دبنقا
تقرير: سليمان سري

تشهد ولاية القضارف أزمة خانقة في التمويل الزراعي بسبب انهيار الموسم المطري وتأثير ذلك على الأمن الغذائي والاقتصادي في الولاية والبلاد عامة، نتيجة السياسات المالية والاقتصادية للدولة.

وفشلت مساعي مزارعي القطاع المطري بولاية القضارف في إقناع السلطات المحلية والاتحادية بفك تجميد أموال البنك الزراعي وتوفير السيولة النقدية من البنوك التجارية الأخرى لتمويل عمليات “الكديب”، بعد أن أطلقوا نداءات استغاثة متكررة لإنقاذ الموسم، إلا أنها لم تجد استجابة من المسؤولين.

وتتراوح الاتهامات بين تحميل وزارة المالية مسؤولية تقييد البنك الزراعي وحجب التمويل في وقت حرج، وبين انتقاد البنوك التجارية التي عجزت عن أداء دورها بسبب ضعف بنيتها وتآكل الثقة بينها وبين المودعين.

وفي ظل هذا الوضع، وبعد أن فشلت الدولة في حل معضلة التمويل، حاول المزارعون معالجة الأزمة بـ”التمويل الذاتي”، فلجؤوا إلى بيع محاصيلهم النقدية، لكنهم واجهوا أزمة أخرى تتعلق بتصاعد الدولار مقابل الجنيه السوداني، الأمر الذي جعلهم يحجمون عن البيع.

ويقول خبراء إن ما يجري ليس مجرد تعثّر إداري عابر، بل انعكاس لأزمة مالية ومصرفية مركّبة عمّقتها الحرب وتراكم السياسات الخاطئة، متهمين وزارة المالية بحبس التمويل حتى فوات الأوان، ليصبح المزارع رهينة للإعسار بدلًا من أن يكون منتجًا.

نداء ثانٍ

أطلق مساعد الأمين العام لمزارعي القطاع المطري بمحلية الرهد بولاية القضارف، أحمد إمام العوض، نداءً ثانيًا لوالي القضارف لإنقاذ الولاية من الانهيار الاقتصادي بسبب غياب التمويل. ودعا الوالي للسفر إلى بورتسودان لمقابلة وزير المالية، د. جبريل إبراهيم، لفك تجميد أموال البنك الزراعي والبنوك الأخرى.
وقال العوض، في حديث لـ”راديو دبنقا”، إن خريف هذا العام كان معتدلًا، لكن نقص التمويل لعمليات “الكديب” جعل المزارعين يتنقلون بين البنك الزراعي والبنوك التجارية الأخرى دون جدوى.

وأضاف العوض أن المزارعين كانوا في السابق يبيعون محاصيلهم بنظام “الكسر”، لكن توقف ذلك بسبب ارتفاع الدولار إلى 3570 جنيهًا، ما جعلهم يحجمون عن البيع.

وأوضح أن التجار أيضًا توقفوا عن التعامل بهذا النظام تحاشيًا للدخول في خسائر مالية فادحة، واصفًا الوضع بالتعسّر الكبير في ظل انعدام السيولة.

وأشار العوض إلى أن مدير البنك الزراعي تعهّد سابقًا بتمويل “الكديب” من إيرادات البنك الذاتية، لكن يبدو أن وزير المالية يرفض السماح للبنك باستخدام موارده، مؤكّدًا أن المزارعين سدّدوا مديونياتهم العام الماضي بنسبة تجاوزت 100%، ما يجعل التعسّر الحالي غير مبرر.

تحريك البنوك

ناشد مساعد الأمين العام للقطاع المطري والي القضارف بتحريك البنوك التجارية الأخرى للقيام بدورها في التمويل، مشيرًا إلى أن المشكلة الثانية تتمثل في عجز المزارعين عن بيع محاصيلهم بسبب تدني الأسعار في السوق، فيما تعتذر البنوك عن التمويل لغياب السيولة وتعتمد فقط على تحويل الأموال عبر تطبيق “بنكك”.

وأوضح أحمد إمام العوض أن معظم الكتلة النقدية تتركّز في بنك الخرطوم، الذي عزف عن التمويل الزراعي وأصبح يدير السيولة للبنوك الأخرى، وقال إن هذا الوضع أضر بالعملية الزراعية وأدى إلى بوار مساحات واسعة مع اقتراب نهاية الموسم.

وعبّر عن استيائه من أن مناشدتهم الأخيرة، التي استدعت حضور المدير العام للبنك الزراعي من بورتسودان، لم تؤدِّ إلى أي نتائج، مشيرًا إلى أن التعهدات بتمويل المزارعين تظل معلّقة بموافقة وزير المالية.

أزمة مركّبة

أرجع الخبير المالي والمصرفي عمر سيد أحمد ما يعيشه السودان اليوم من أزمة عجز التمويل لأهم قطاع إنتاجي إلى كونه جزءًا من أزمة مركّبة، تجلّت بوضوح في صرخة المزارعين بالقضارف.

وقال، في حديثه لـ”راديو دبنقا”، إن الموسم الصيفي انتهى دون أن يحصل المزارعون على التمويل المطلوب، رغم توفر المخزون الاستراتيجي من المحاصيل.

وأضاف: رغم أن البنك الزراعي كان يُفترض أن يكون الجهة الأولى للدعم، لكن الحقيقة أن وزارة المالية كبّلت يدي البنك الزراعي، وحبست التمويل حتى فات الأوان، ليصبح المزارع رهينة للإعسار بدلًا من أن يكون منتجًا.

وأوضح سيد أحمد أن الأرقام التي تحدّث عنها المزارعون في تسجيلات صوتية صادمة: أكثر من مليون جوال محبوسة في الصوامع، مليارات الجنيهات مجمّدة بلا صرف، والمزارعون بلا دعم.

وأكد أن هذه ليست مجرد أخطاء إدارية، بل سياسة مالية متعمّدة جعلت البنك الزراعي عاجزًا برأسماله الضعيف.

وأشار سيد أحمد إلى أن البنوك التجارية نفسها كانت عاجزة منذ ما قبل الحرب، بسبب ضعفها البنيوي، محدودية رساميلها، وتآكل الثقة بينها وبين المودعين، ما أدى إلى هروب 95% من الكتلة النقدية إلى خارج النظام المصرفي. واعتبر أن الحرب عمّقت هذا الانهيار، حيث تعطّلت الفروع، تصاعدت المضاربات في النقد والذهب، وارتفعت الديون المتعثّرة إلى أكثر من 50% من جملة المحفظة التمويلية، نتيجة توقف الأنشطة الاقتصادية.

تحرير البنك الزراعي

أكد سيد أحمد أن الاقتصاد الموازي بات يسيطر على أكثر من 85% من النشاط الاقتصادي، فيما انكمش دور الجهاز المصرفي الرسمي إلى حدود دنيا.

وخلص إلى أن الدعوة إلى “تحرير البنك الزراعي من وزارة المالية” لا تعني وقف الدعم المالي، بل إعادة هيكلة العلاقة بحيث تظل المالية ممولة جزئيًا، لكن دون أن تتحكم في قرارات الإقراض أو توقيت التمويل.

واقترح الخبير المصرفي عمر سيد أحمد أن يتحول البنك الزراعي إلى مؤسسة تنموية مستقلة، ذات مجلس إدارة مهني، ترتبط مباشرة بالبنك المركزي، وتستفيد من مصادر تمويل موازية مثل السندات الزراعية، الشراكات الإقليمية، والتمويل التشاركي.

وفي المقابل، دعا إلى إلزام البنوك التجارية – رغم ضعفها – بتوجيه جزء من مواردها لتمويل القطاعات الإنتاجية ضمن خطة قومية يشرف عليها البنك المركزي.

وقال: “لا يمكن القول إن الدولة غائبة؛ بل هي حاضرة بتوجيه الموارد المتاحة، خاصة من الذهب، إلى تمويل الحرب بدلًا من الزراعة، وبإصرار قادتها على استمرار النزاع مهما كانت كلفته”.

ورأى أن هذه السياسات تترك المزارع بلا دعم، والشعب بلا غذاء، فيما تُستنزف الموارد في حرب عبثية تقود البلاد إلى المجاعة.

مشاكل متكرّرة

من جهته، قال الخبير الزراعي المهندس سامر أبو القاسم أحمد محمد إن مشاكل التمويل الزراعي متكرّرة منذ سنوات، وأرجع ذلك إلى غياب إرادة حقيقية لدى الجهات المختصة.

وأضاف، في حديثه لـ”راديو دبنقا”، أن المشكلة تارة تتعلق بتوقف التمويل أو عدم تغطيته لكل المزارعين، وتارة أخرى بحصره على مجموعة محدودة أو بمشاكل التأمين الزراعي.

وأوضح أن التمويل الزراعي يرتبط بجهتين أساسيتين: وزارة المالية والبنك الزراعي التابع لوزارة الزراعة.

وأقرّ بوجود مشكلات ظهرت هذا العام، مشيرًا إلى أن التمويل اقتصر على مواد بترولية (جازولين)، حيث يدفع المزارع 10% من قيمتها، واصفًا العملية بغير العادلة وغير المنصفة.

وأكد الخبير الزراعي أن التمويل ينبغي أن يقوم على أسس واضحة، فكل الاقتصاد العالمي يعتمد عليه عبر البنوك أو المؤسسات التمويلية المعروفة.

وأشار أبو القاسم إلى أن مساحات واسعة خرجت من دائرة الزراعة المطرية لأسباب مختلفة، بينها الحرب، انتشار الآفات (مثل القوارض)، أو مشاكل التمويل. وأضاف أن تقليص هذه المساحات يهدد بمجاعة، رغم نفي بعض المسؤولين لذلك.

ولفت إلى أن تعريف الأمم المتحدة للمجاعة يقوم على نقص الغذاء وعدم قدرة المواطن على شرائه رغم توفره.

وقال أبو القاسم إنه لم تصدر أي جهة رسمية إعلانًا بوجود مجاعة في السودان، لكن تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبعض المنظمات الأخرى تحدّثت عن مؤشرات لوجود مجاعة.

Welcome

Install
×