المتاحف.. ذاكرة السودان المنهوبة وهوية وطن على المحك

واجهة متحف السودان القومي - الخرطوم الصورة وكالة السودان للأنباء
منتدى الإعلام السوداني
بقلم : مهند مرشد
الخرطوم، 10 أغسطس 2025، (جبراكة نيوز) – منذ اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، تكبدت المتاحف والمواقع الأثرية والمؤسسات الثقافية في العاصمة الخرطوم أضراراً جسيمة، فمعظمها يقع في مناطق شهدت أعنف المعارك، ما جعلها عرضة للقصف المباشر وأعمال التخريب التي استمرت على مدى نحو عامين، فيما لم يستبعد التخريب والنهب الممنهج بغرض محو تاريخ الأمة .
متحف السودان القومي، أهم المؤسسات والمتاحف التي طالتها يد الحرب تخريباً ونهباً، ذاكرة الأمة وخازن حضارتها الذي يقع عند ملتقى النيلين بشارع النيل وسط الخرطوم، أعظم القيم التراثية في السودان، مبنى ومعنى، باحتوائه على مقتنيات تمثل كافة فترات الحضارة السودانية، منذ ما قبل التاريخ، بدءًا من العصور الحجرية مرورًا بالآثار النوبية والمسيحية وحتى الفترة الإسلامية. ويضم آلاف القطع الأثرية والتماثيل ذات القيمة التاريخية والمادية العظيمة، بما في ذلك قطع فخارية وحجرية وذهبية يعود تاريخها لآلاف السنين.
نهب ممنهج وحملة لاسترداد القطع الأثرية
قالت المديرة المكلفة لمتحف السودان القومي غالية جار النبي لـ”جبراكة نيوز”، إن قوات الدعم السريع استهدفت المتاحف السودانية بشكل ممنهج لمحو تاريخ السودان، حيث إن متحف السودان القومي يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل تاريخ السودان منذ العصور الحجرية وحتى العصور الإسلامية. مؤكدةً أن أكثر من 60% من القطع الأثرية نُهبت، بما في ذلك قطع معدنية وفخارية وذهبية ومجوهرات تعود لملوك وملكات نبتة، وما تبقى منها تعرض للتخريب، وشمل ذلك حتى السجلات التي تحتوي على توثيق القطع الأثرية.
ولفتت جار النبي إلى أن كنوز السودان الأثرية المنهوبة من قِبل قوات الدعم السريع هُرّبت خارج حدود السودان إلى الأسواق الإقليمية والدولية، وأضافت: “وهي في الأغلب ستُباع بمبالغ زهيدة مقارنة بقيمتها التاريخية والحضارية، مما يجعل استردادها شبه مستحيل في ظل غياب التوثيق الدقيق للقطع الأثرية “.
وأشارت إلى أن هذه الاعتداءات على التراث الثقافي في السودان تشكل تهديدًا خطيرًا لهوية وتاريخ السودان، وأن القطع الأثرية التي نُهبت ليست مجرد مقتنيات مادية بل تمثل تاريخ شعب وتجسد هويته الثقافية وذاكرته الوطنية.
ونوهت بأن فريقًا دوليًا من عدد من خبراء الآثار السودانيين، بالتعاون مع خبراء دوليين، بالتعاون مع (اليونسكو) والإنتربول، شرع في عملية بحث بهدف استرداد آلاف القطع الأثرية المنهوبة، مشددة على ضرورة تنسيق الجهود الدولية لاسترداد هذه الآثار وترميم ما تبقى منها.
كما لحقت أعمال النهب والتدمير متحف الخليفة عبد الله التعايشي بمدينة أم درمان، إذ نُهبت مقتنياته التي توثق لفترة الدولة المهدية وما قبلها في تاريخ السودان، بما في ذلك مخطوطات نادرة، وقطع معدنية، وممتلكات شخصية لقادة تلك الحقبة. ومن بين المسروقات سيفا الأمير عثمان دقنة وعبد الرحمن النجومي، القائدين المعروفين في الثورة المهدية (1881–1899) ضد الحكم التركي– المصري.
ويتواصل الدمار ليشمل متحف التاريخ الطبيعي التابع لكلية العلوم بجامعة الخرطوم، الذي يحتوي على أنواع مختلفة من الكائنات، بينها طيور وزواحف حية ومحنطة، ويوثق للتنوع الغني للحياة البرية في السودان، وكان يحتفظ بعينات لأنواع نادرة من الحيوانات والطيور المهددة بالانقراض. وتمثل العينات التي يضمها هذا المتحف أهمية بالغة للطلاب والباحثين .
وتمتد الخسائر إلى متحف السودان الإثنوغرافي الذي يوثق الثقافة التقليدية في السودان، ويعكس تعدد المجموعات العرقية، ويبرز تنوع الحضارات والبيئات في أقاليم السودان المترامية، عبر عرض أدوات زراعية ومنزلية واحتفالية بجانب الأزياء وغيرها مما يعبر عن مختلف مناطق البلاد.
وطال الخراب أيضًا كلا من متحف الجيولوجيا والمتحف الحربي والقصر الجمهوري، بالإضافة إلى مؤسسات علمية عريقة ومراكز ثقافية والكثير من دور العبادة وسط العاصمة الخرطوم.
أمة بلا ذاكرة بيانات
وقال الكاتب والمؤرخ د. بشير أحمد محيي الدين لـ”جبراكة نيوز”، إن المتاحف في ولاية الخرطوم، إلى جانب دار الوثائق القومية والمكتبة الوطنية، تكبدت أضرارًا جسيمة نتيجة ما وصفه بـ”حملة ممنهجة نفذتها قوات الدعم السريع” خلال سيطرتها على العاصمة.
وأشار إلى أن هذه الحملة استهدفت الذاكرة الوطنية للأمة السودانية الممتدة لسبعة آلاف عام، عمدًا وبسبب الجهل بقيمتها، مما أدى إلى تدمير معظم المعالم الثقافية تقريبًا في الخرطوم، ووصف ذلك بأنه “أكبر ألم للذاكرة الوطنية”، وجريمة تتحمل مسؤوليتها قوات الدعم السريع.
ومن جهته قال النحات والتشكيلي السوداني مصطفى بشار لـ”جبراكة نيوز”، إن اختفاء الآثار وتدميرها يعتبر خسارة للشعب السوداني، الذي كان يعوّل عليها في بناء وطن جديد، فهي تمثل قاعدة بيانات تحفظ ذاكرة الأمة، وكان الأجدر أن تُصان هذه المقتنيات، لأن الشعوب بعد انتهاء الحروب تعود إلى ذاكرتها الجمعية الموجودة في المتاحف.
وأضاف بشار أن تاريخ الأمم يُقرأ من خلال آثارها المادية، وأن ضياعها يجعل البلاد بلا بوصلة وفي حالة انعدام وزن، خاصة إذا بقي الإرث محصورًا في الحكي الشفوي أو النصوص المكتوبة دون دليل مادي يعبر عن فترات التاريخ المختلفة.
وأوضح أن ما دُمِر من آثار يمكن إعادة تصميمه بواسطة النحاتين السودانيين، حتى بالاستعانة بالتقنيات الليزرية الحديثة، لكنه شدد على أن هذه الأعمال ستبقى مجرد محاكاة بلا قيمة تاريخية ولا تعوِّض الأصل.
ومنذ بدء الحرب في السودان، سيطرت قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من الخرطوم، بما في ذلك وسط المدينة الذي يضم تلك المواقع الأثرية والثقافية المهمة. ومنذ ذلك الحين، تتواصل ضد هذه القوات سلسلة من الاتهامات الدولية والمحلية بالعبث وتخريب هذه المواقع، واستخدامها كثكنات عسكرية، قبل أن يتمكن الجيش من طردها واستعادة السيطرة على الخرطوم في مايو 2025.
الوثائق والمخطوطات في دائرة التلف
من ناحية أخرى يلفت الدكتور بشير إلى أن الوثائق والمخطوطات في دار الوثائق القومية تعرضت للتلف بعد تحطيم النوافذ، فأصبحت عرضة للأمطار والرياح والرطوبة. وأشار إلى أن بعض الوثائق أُخرجت من حاوياتها وبعثرت على الأرض، فتأثر جزء منها، خاصة الصحف القديمة، منوّهًا بأن الحالة العامة تقيم بأنها “ممتازة نسبيًا” بالنظر إلى وقوع المبنى في منطقة شهدت عمليات عسكرية نشطة قرب القيادة العامة للجيش.
وفي هذا السياق، قال رئيس الجمعية السودانية للمكتبات والمعلومات الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية البروفيسور يوسف عيسى لـ”جبراكة نيوز”، إن كثير من الوثائق والمخطوطات والمواد المؤرشفة، بما في ذلك وثائق أجهزة الدولة، تعرضت لأضرار جسيمة ليس بسبب تأثيرات الحرب فقط، بل أيضًا بعوامل طبيعية، مثل الأمطار التي لم تستطع الأسقف منع تسربها ، إضافةً إلى انتشار القوارض والفطريات، مما عرضها للتلف. ودعا البروفيسور إلى ضرورة مراعاة المواد المستخدمة في بناء المباني الثقافية مستقبلًا لضمان حمايتها.
ونوه الدكتور بشير محيي الدين بأن الوثائق التي تلفت كليًا أو جزئيًا يمكن محاولة استرجاع نُسخها من الأصول الموجودة في دور الوثائق الأخرى، مؤكدًا أن إنقاذ ما تبقى مسؤولية وطنية عاجلة. وأشار إلى إطلاقه “مبادرة د. بشير أحمد محيي الدين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في دار الوثائق القومية”، وقال إن المبادرة وجدت دعمًا من الجهات الحكومية.
وبشأن إمكانية الترميم، أوضح محيي الدين أن تعويض المفقود من الآثار أمر بالغ الصعوبة، لأن القطع الأثرية فريدة ولا يمكن استبدالها.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” قد أطلقت نداءً في بيان أواخر العام 2024، دعت فيه إلى وقف “اقتناء الممتلكات الثقافية القادمة من السودان أو المشاركة في استيرادها أو تصديرها أو نقل ملكيتها”، وشدد البيان على أن أي عملية بيع أو نقل غير مشروعة للمقتنيات الثقافية تؤدي إلى “اختفاء جزء من الهوية الثقافية السودانية وتقويض قدرة هذا البلد على التعافي”.
وجاء تشديد اليونسكو عقب انتشار تقارير وصور متطابقة، يُتهم فيها الدعم السريع بعرض مقتنيات أثرية ثمينة من المتحف القومي للبيع على الإنترنت، بأسعار زهيدة، مما يدل على عدم معرفة قيمتها التاريخية والمادية.
وعن جهود إنقاذ المواقع الأثرية، أشار د. محيي الدين إلى أنه فور إعلان استعادة الجيش للخرطوم وإخلائها من قوات الدعم السريع، تحرك عدد من المهتمين والمؤرخين والمبادرين لرصد الأوضاع في المتاحف ودار الوثائق، ونقلوا ما شاهدوه عبر الفيديوهات والتسجيلات الصوتية للجهات المختصة. ونوّه بأنهم نفذوا عمليات نظافة وإصحاح بيئي ورفع الأنقاض وبقايا المتفجرات والشظايا، التي أعادت لدار الوثائق “وجهها المشرق”.
وأبدى الفنان التشكيلي مرتضى جادين استياءه من فقدان كثير من المقتنيات الأثرية ذات القيمة الجمالية والفنية العالية، ووصف ضياعها بأنه ضياع أجيال قادمة، وتمنى أن تأتي حكومة مدنية تساعد في استرجاع الأعمال المخربة والمنهوبة، مشيرًا إلى أن الفنانين السودانيين قادرون على استعادة الكثير من الأعمال لأنهم يحملون ذاكرة هذه الكنوز ولارتباطهم بها فنيًا ومكانيًا.
ورغم عدم وجود تقارير دقيقة تقدر حجم الخسائر في المواقع الثقافية والحضارية، فإن تقديرات المهتمين تشير إلى أن فقدان معظم هذه المؤسسات، التي تتمركز في العاصمة الخرطوم، يتطلب مضاعفة تضافر جميع الجهود المحلية والدولية المعنية بالثقافة في السودان لإعادة الحياة إليها.
جهود الإصلاح
ولفت بروفيسور عيسى إلى أنهم في الجمعية السودانية للمكتبات والمعلومات، وهو جسم مهني وطوعي، بدأوا بحصر المؤسسات المتضررة بسبب الحرب، بما في ذلك جميع المكتبات الجامعية والعامة، بهدف إعداد تقرير مفصل مدعوم بالصور يوضح حجم الأضرار والفترة الزمنية التي سيستغرقها الإصلاح، وسيتم تقديم هذا التقرير إلى منظمات دولية وإقليمية لمناقشة سبل تقديم المساعدة في إعادة إعمار هذه المنشآت.
وأكد أن تنفيذ هذه المشاريع الثقافية يمضي وفق خطط مدروسة، وأنهم يعملون على تطوير المؤسسات الثقافية بشكل أفضل، بجانب العمل على توعية المجتمع بأهميتها وكيفية الحفاظ عليها والتعامل معها. ويشمل ذلك دور المعلومات، المتاحف، المسارح، المراكز الثقافية، دور النشر، باعة الكتب، المقتنيات لدى الأفراد، مع وضع خطط مستقبلية للتعامل مع هذه الموارد.
وبشأن جهود ملاحقة الآثار المنهوبة، قالت وزارة الخارجية السودانية في بيان مطلع أبريل 2025، إن الحكومة ستواصل جهودها مع اليونسكو، والإنتربول، وكل المنظمات المعنية بحماية المتاحف والآثار والممتلكات الثقافية، لاستعادة المسروقات ومحاسبة المسؤولين. مشيرةً إلى أن ما تم، يعتبر جريمة حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي، واتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات، واتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن حظر الإتجار في الممتلكات الثقافية.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (جبراكة نيوز)، لتسليط الضؤ على مدى ما تعرضت له المتاحف ودار الوثائق القومية والمكتبات في الخرطوم من دمار ونهب وخراب واسع، إبان المعارك، ما أدى لفقدان نسبة مقدرة من المقتنيات والكنوز الأثرية التي لا تقدر بثمن، وتلف في المخطوطات بفعل الطبيعة والإهمال، بما يهدد ذاكرة الحضارة السودانية. والجهود المبذولة لاستعادة المنهوبات وترميم ما أصابه التلف.
