المؤتمر الاقتصادي؟ أم التوافق السياسي المجتمعي أولاً؟

يهدف هذا المقال، والذي كان حافزنا لكتابته، الاتجاه الخطير الذي ينزلق اليه الوضع السياسي والاقتصادي الذي تتجه اليه البلاد منذ بداية العام 2020، والذي ظللنا وظل المشفقون على حال البلاد من كل فئات الشعب ينبهون لخطورته على وحدة البلاد وأمنها القومي ووجودها.

.

 

 بقلم : د. علي محمد الحسن، ود. حسب الرسول عباس البشير

 
يهدف هذا المقال، والذي كان حافزنا لكتابته، الاتجاه الخطير الذي ينزلق اليه الوضع السياسي والاقتصادي الذي تتجه اليه البلاد منذ بداية العام 2020، والذي ظللنا وظل المشفقون على حال البلاد من كل فئات الشعب ينبهون لخطورته على وحدة البلاد وأمنها القومي ووجودها.

ولعلنا لسنا في حاجة الى سكب مداد كثير ولا لتسويد الصحائف لوصف بؤس الحال الاقتصادي ومظاهر التدهور في كافة مؤشرات الاقتصاد القومي الكلي وتعدد اختلالاته. ففي وقت جاءت الحكومة بموازنة تسعى من خلالها لتحقيق "التثبيت الاقتصادي" انتهي بنا الحال لأزمة لم يشهد لها تاريخنا المعاصر مثيلا. وقد دعانا هذا الحال الى الكتابة ليس لإبراء الذمة فقط، وهو أمر مبرر، ولكن للمساهمة برأينا حول المسألة والتشكك، بل والقناعة، بأن الاتجاه العام نحو عقد المؤتمر الاقتصادي، المزمع في نهاية الشهر الجارى، ليكون وسيلة لحل الأزمة السياسية الاقتصادية التي كانت سببا في وصولنا لهذا الحال ليس هو الحل الأمثل.

فلقد دخلنا على العام 2020 بانكماش اقتصادي بلغ 2.5% خلال 2019 وقد كان سبقه إنكماش اقتصادي مماثل في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 2.25% في العام 2018. وبينما افترضت موازنة العام 2020 نموا إقتصاديا بمقدار 2.9% للعام إلا أن تقديرات صندوق النقد الدولي توقعت نموا سالبا بحوالي – 8%مع توقعات باستمرار النمو السالب للعام التالي أيضا، وذلك حتى قبل الأخذ بالاعتبار آثار جائحة الكورونا والفيضانات.

ومن ناحية أخرى، فقد جاءت موازنة العام 2020 المعدلة بسبب عدم تحقق معظم افتراضات الموازنة الأصلية، خاصة تلك المتعلقة بالموارد الداخلية والخارجية معا، تحمل مزيدا من المؤشرات السلبية ابتداءا بنسبة نمو قدر بحوالي سالب 3.1% في الناتج المحلي وعجز كلي في الموازنة يقدر بحوالي 254 مليار (13.2% من الناتج المحلي) نشأ من إيرادات عامة تقدر بحوالي 445 مليار جنيه مقابل 684 مليار جنيه من الإنفاق . مع توقعات بتمويل 200 مليار جنيه من هذا العجز بالاقتراض من البنك المركزي (في وقت يعلم الجميع فيه أن الحكومة قد تجاوزت الحد الأقصى للإقراض حسب قانون البنك).

وفي ظل هذا الوضع المختل، فمن المتوقع زيادة عرض النقود ولذلك فان معدل التضخم الذي كان مستهدفا أن ينخفض الى 30% خلال 2020 قد عدل ليكون 65% في الموازنة المعدلة بينما بلغ بالفعل في شهر يوليو عند صدور التعديل 144% وهذا معدل غير مسبوق، ومن المتوقع أن تشهد بقية أشهر العام مزيدا من التضخم. ولنفس الأسباب، فقد قفز سعر الصرف ما يفوق 250 جنيها للدولار وبدأت سمات الدولرة تشكل واقعا ملموسا في التبادلات التجارية.

ومن الجانب السياسي فان الوضع ليس بأحسن حالا، بل يتسم بالهشاشة وتآكل رصيد التأييد السياسي الشعبي للحكم والتواكل والتجاذب بين أطراف الجماعة السياسية الداعمة للحكومة وتحالف الحرية والتغيير، في وقت يستلزم الوحدة والتكاتف وشحذ العزائم والمقدرات لمجابهة الواقع الذي لا يهدد الاقتصاد والسياسة معا ولكن وجود الدولة ذاتها كما اشرنا إليه أعلاه. ولعل أكثر ما يؤرق ويقلق المراقب بأن الأمر يبدو كأنما لو أننا ننتظر حلا سحريا سيؤدي الى معالجة هذا المأزق المدلهم وأن هذا الحل السحري يتجسد للجميع في المؤتمر الاقتصادي الذي يجيء مقالنا هذا حوله.

ولا بد من التذكير هنا بأن ما حدث في بعض الدول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا في الماضي القريب وبعض الدول العربية مؤخرا من انفلات أمني وسياسي وتدهور اقتصادي فاق أسوأ تصورات المتشائمين لم يحدث بين ليلة وضحاها، وانما كان نتيجة لتطورات تدريجية ومراحل متعددة من التدهور لم تجد الاهتمام الكافي بها. كما وأن التنوع والاختلاف السياسي والديني والاجتماعي والثقافي وتآكل رأس المال الاجتماعي بين مكونات المجتمعات المذكورة كان له أثره في صعوبة التوصل الى التسوية السياسية التي تحتاجها مجتمعاتها لحل المسائل الاقتصادية. فالاقتصاد يؤثر في السياسة كما تؤثر السياسة فيه. وعليه يصبح من غير المنطقي في تقديرنا السعي لحل المسائل الاقتصادية بمنأى عن المشكلة السياسية والتي تؤدي كل يوم الى مزيد من الهشاشة والليونة في تركيبة الجماعة السياسية الداعمة للحكم. ولا بد لنا أن نشير هنا الى أننا عندما نتحدث عن الجماعة السياسية، فإننا نعني بها إضافة الى تحالف الحرية والتغيير الغالبية من الشباب من الجنسين والذين كانوا لحمة الثورة وسداها من غير المنتمين لأحزاب أو تنظيمات وكذلك الجماعات الإسلامية والأفراد الذين لم يتلوثوا مع النظام السابق.

ولعل السؤال الهام الآن هو: هل هناك مبررات كافية للدعوة لمؤتمر اقتصادي يتم حاليا التخطيط لعقده أواخر هذا الشهر. للإجابة على هذا السؤال دعنا نستدعي الخلافات الحادة التي سبقت وتلازمت مع اعداد موازنة 2020 بين عدد من مكونات الحكومة الحالية وهي خلافات جوهرية بلغت مداها الحاد والجاد وتبادل الاتهامات والتي هدأت نسبيا بعد تدخل "الوساطة" واجازة الموازنة. الا انه وقبل حلول منتصف العام الماضي، وتعرض البلاد لجائحة كرونا (اضافة الي أسباب اخري) تمت مراجعة موازنة 2020 واجازة ما سمي بموازنة 2020 المعدلة والتي ابرزت بوضوح تام عدم مصداقية وواقعية الأسس والافتراضات التي بنيت عليها. أعقب ذلك ما يمكن تسميته “بالجناية الكبرى" او "أم الخطايا" للحكومة الانتقالية عندما طبقت الزيادات غير المسبوقة في مرتبات العاملين مع الادعاء المضلل بان هذه الزيادات سيتم تمويلها من موارد حقيقيه سرعان ما اتضح عدم صدقيتها مما أدى؛ اضافة الي عوامل اخري؛ الي الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي تعيشها البلاد حاليا. وعادت الخلافات الحادة بين مكونات الحكومة وخاصة مع حاضنتها السياسية مرة اخري.

الملاحظة الهامة هي انه ليس هناك ما يشي بان أيا من الأطراف المذكورة (الحكومة وقحت والمعارضة) قد تنازل او حتى عدل من مواقفه المتعارضة وخاصة في مسائل جوهرية تمس عصب الموازنة وأسس إدارة الاقتصاد القومي مثل تحرير سعر صرف العملة الوطنية والدعم السلعي ونظام الدعم الاجتماعي والعلاقة مع المؤسسات المالية الإقليمية والدولية. ومن المتوقع ان تنتقل هذه الخلافات الحادة الحالية بين مكونات الحكومة الي قاعات المؤتمر وان تسود الرغبات والمصالح الحزبية والأيدلوجية والشخصية بين المشاركين المحتملين فيه.

ومما يدعو الي القلق أيضا ان عددا من الاقتصاديين المنتمين لقحت والمعارضة والذين اعتبروا أن رفع الدعم عن بعض السلع الاستهلاكية وتصحيح ومراجعة سعر الصرف للعملة الوطنية وتحسين العلاقات مع مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية من المحرمات التي لا يجب حتى التداول حولها بعقلانية ما زالوا يقومون بأدوار محورية في التحضير والاشراف على المؤتمر الاقتصادي الموعود. ونحن ندعي باننا نعرف مسبقا الجهات بل والأشخاص الذين سيكون لهم القدح المعلى والصوت الأعلى في تحضير وتقديم الأوراق الرئيسة للمؤتمر مما يخشى أن يجعل منه ساحة للتنافر والاختلاف والارباك.

الحلول الأمنية:

رغم أهميتها في بعض الأحيان، الا ان التجارب العملية اثبتت ان الحلول الأمنية لن تنجح في تثبيت سعر صرف العملة الوطنية. ومما يؤكد ذلك ان الزيادات المتصاعدة الأخيرة في سعر صرف العملات الأجنبية قد جاءت مباشرة في اعقاب التهديد والوعيد "والحرب" التي أعلنتها لجنة الطوارئ الاقتصادية مؤخراً.
من ناحية اخري فان بعض الحلول المقترحة لمكافحة التضخم مثل مشروع "سلعتي" وكذلك "أسواق البيع المخفض" هي حلول مؤقتة لا يمكن ان توصف بالديمومة لان المشكلة تكمن أساسا في الارتفاع المستمر في تكلفة الإنتاج وبشكل اقل في وجود السماسرة والوسطاء.

ما هو البديل: –

يتمثل البديل في تقديرنا في إعطاء الاسبقية للتسوية السياسية بين مكونات المجموعة السياسية التي تضم الجميع من سياسيين وتنفذين ومعارضة ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني والتي تكون الجبهة المكونة للحكومة والداعمة لها والتي تكون مسؤولة من تشكيل وتعديل الحكومة وتوجيهها ومساءلتها طيلة الفترة الانتقالية ما لم يتكون المجلس التشريعي ويستلم مهامه فعلا.
ويتطلب هذا استعدادا من مختلف مكونات التحالف الى الجلوس الطاولة بقناعة تتمثل في ضرورة تقديم التنازلات فوق الحزبية التي تتطلبها المرحلة الراهنة والتوصل الى الاتفاق والى تكوين مجموعة تتكون من عدد محدد من الافراد (كلجنة تنفيذية) يكونون حلقة الوصل بين الحكومة وحاضنتها السياسية، تمثل رابطا عضويا بين الجهاز التنفيذي والسياسي الى حين إٍكتمال تكوين المجلس التشريعي. ويمكن لهذه اللجنة أن تدعو الى الجمعية العمومية لجماعتها إذا دعا الحال في بعض القضايا الكبيرة.
ويستدعي الامر كذلك وضع برنامج وخطة اقتصادية وموازنة تفصيلية تنطلق من هذا البرنامج لتغطي ما تبقى من الفترة الانتقالية واعداد موازنات لما تبقى من العام 2020 و2021 و2022 يتم أعدادها بتنسيق تام بين اللجنة والحكومة لتعكس الموجهات المتفق عليها.

مكونات البرنامج:

ونقترح ان تتمثل مكونات البرنامج فيما يلي:

• أهمية الاتفاق بين الحكومة والقطاع الخاص والجيش والقوات النظامية الأخرى (التي تقع تحت سيطرتها وحدات إنتاجية مملوكة للدولة) على البرنامج الاقتصادي يهدف الى تطوير وتنفيذ برنامج انقاذي معتمدا على الموارد الذاتية المتاحة ولحلحلة كل محددات الإنتاج خاصة ما تعلق منها بالبنيات الأساسية كأسبقية أولى.
• إيقاف كل الانفاق التضخمي باستقطاب دعم المكونات الثلاثة المذكورة أعلاه التمويلية وإيقاف استدانة الحكومة من البنك المصرفي لتمويل الانفاق الجاري بتاتا.
• مراجعة سياسات سعر الصرف وترشيد الدعم بما يتناسب مع أهداف ومقايضات التثبيت الاقتصادي.
• دعم مبادرات حل اختناقات المحروقات والطاقة والميناء والنقل والتفكير في الاستفادة من نماذج الشراكة بين القطاع العام والخاص الداخلي والخارجي في هذا الصدد.
• تبني مبادرة جادة لتحسين فعالية وكفاءة منظومة الضرائب والجمارك خاصة سد الثغرات الكبيرة في اغفال القطاعات غير المنظمة وتهربها وتحسين أسس الضرائب على الثروة والدخول المرتفعة بما يحقق العدالة الاجتماعية ويمكننا من الارتقاء بمعدل تحصيل يناسب موقعنا وموقع اقتصادنا في افريقيا: وفي تقديرنا لا يجب أن يقل ما نستهدفه من تحصيل عن 25% من الناتج الإجمالي المحلي.
• اتخاذ كافة الإجراءات الخاصة بتحسين مناخ الاعمال بالارتكاز على مؤشر أداء الاعمال واسناد الامر الى جهة حكومية ذات سلطات وموارد لتقوم بتنسيق الجهود في هذا المجال ولتكون مسؤولة عن تقدمنا الحقيقي في هذا المجال الحيوي.
• الاتفاق على إيقاف مظاهر الليونة المجتمعية والتركيز على العمل والإنتاج.
• توقف المطالبات الفئوية والاضرابات والوقفات الاحتجاجية والمسيرات المليونية وغير المليونية والالتفات الى قضايا الإنتاج بالعمل.
وعلى ضوء هذه المكونات يقترح اعداد البرنامج التنفيذي بالتوافق بين الحكومة والمجموعة السياسية التي اقترحت أعلاه، ولعل تصورنا هذا يشابه ما تقوم به الديمقراطيات النيابية في كل بقاع الدنيا ويوضح أن أدارة السياسة والاقتصاد أذا كان لها أن تكون فعالة فإنها لا تدار عبر المؤتمرات ( كحملات النظافة التي تنطلق مرة في العام) ولكنها تتطلب تكوين منظومة للتواصل اليومي بين الحكومة والجهاز التنفيذي وجماعتها السياسية. ولا يتطلب الامر الغاء عقد المؤتمرات وجلسات الاستماع وتواصل الحكومة والجماعات السياسية مع جماهيرها ولكن المؤتمرات ليست هي الالية المناسبة لتوفير الحل الناجع لخروجنا من مأزقنا والعبور بشعبنا لآفاق سياسية واقتصادية تليق بنضالاته.

خاتمة:

وعود الى أهمية اسبقية التوافق السياسي بين افراد المجموعة السياسية وعدم القفز فوق بناء هذا التوافق على توهم أننا يمكننا بناء برامج اقتصادية فعالة في ظل هذا التشظي، فلا بد لنا أن نستدعي إرثنا وتجاربنا في تمثل الحاجة الى روح الوساطة والجودية التي مكنتنا من الوصول الى توافقات عديدة عبر تأريخنا عل أهمها في ديسمبر 1955 عندما تمكننا من الوصول الى توافق مكن الأحزاب المتناقضة الرؤى الى الوصول الى حل توافقي أدى الى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان وبسلاسة مفاجئة. وفي ظل تعدد الاتجاهات السياسية والاستقطاب والتباعد بين مواقف الجهات المكونة للمجموعة السياسية فان حاجتنا الى مثل هذا التوافق أعظم على الرغم من صعوبته. وهذا يتطلب وعيا بالمخاطر التي تهدد وجودنا والاطماع التي تهددنا على المستويات الإقليمية والدولية. فالجميع ينتظر تشرذمنا وتشتتنا عله يجد فيه فرصا لتحقيق مطامحه ومصالحه الاستراتيجية. وعلى الرغم من ذلك، فإننا وثقة في شعبنا، لا نملك الا أن نتفاءل.