القوى المناهضة لانقلاب فض الشراكة: حانت ساعة الجلوس للحوار!

إبتداءً، هذا المقال مَعْنِىٌّ بالحوار بين القوى السياسية “المدنية” للحرية والتغيير (مكونات المجلس المركزي والحزب الشيوعي)، قوى المقاومة الشبابية (لجان المقاومة)، قوى الكفاح المسلح (الحركة الشعبية شمال- الفريق عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان- القائد عبد الواحد النور)، والكيانات الأخرى فاعِلة. فالمقال ليس معنياً بالحوار بين هذه القوى المناهضة لانقلاب فض الشراكة والسلطة الحاكمة، ما لم يقتضي السياق. بل، يهدف إلى تحرير الخلاف بين هذه القوى، وإلى دعوتها للتفكير في ضرورة نشوء “كتلة سياسية حرجة”، تضع عملية التغيير في المسار الصحيح، والشروع عاجلاً في الجلوس للحوار حول أجندةٍ مُحددةٍ. في رأيي، أنَّ الظروف الراهنة للصراع السياسي في البلاد لا تسمح بإستنساخ مفهوم “الكتلة التاريخية”، بالمعنى الذي طرحه أنطونيو غرامشي ، والتي ضمّت قوى التغيير والإصلاح في شمال إيطاليا، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، والقوى الريفية المهيمنة في الجنوب، بما فيها الكنيسة. وهذا لا يتسق مع واقعنا، الذي يحتضن جماعات سياسية أخرى لها منطلقات إيديولوجية وقواعد مجتمعية مختلفة ومتباينة.

د. الواثق كمير

 

 بقلم: د. الواثق كمير

 

إبتداءً، هذا المقال مَعْنِىٌّ بالحوار بين القوى السياسية “المدنية” للحرية والتغيير (مكونات المجلس المركزي والحزب الشيوعي)، قوى المقاومة الشبابية (لجان المقاومة)، قوى الكفاح المسلح (الحركة الشعبية شمال- الفريق عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان- القائد عبد الواحد النور)، والكيانات الأخرى فاعِلة. فالمقال ليس معنياً بالحوار بين هذه القوى المناهضة لانقلاب فض الشراكة والسلطة الحاكمة، ما لم يقتضي السياق. بل، يهدف إلى تحرير الخلاف بين هذه القوى، وإلى دعوتها للتفكير في ضرورة نشوء “كتلة سياسية حرجة”، تضع عملية التغيير في المسار الصحيح، والشروع عاجلاً في الجلوس للحوار حول أجندةٍ مُحددةٍ. في رأيي، أنَّ الظروف الراهنة للصراع السياسي في البلاد لا تسمح بإستنساخ مفهوم “الكتلة التاريخية”، بالمعنى الذي طرحه أنطونيو غرامشي ، والتي ضمّت قوى التغيير والإصلاح في شمال إيطاليا، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، والقوى الريفية المهيمنة في الجنوب، بما فيها الكنيسة. وهذا لا يتسق مع واقعنا، الذي يحتضن جماعات سياسية أخرى لها منطلقات إيديولوجية وقواعد مجتمعية مختلفة ومتباينة.

تحرير الخلاف

إنَّ انقلاب فض الشراكة، في 25 أكتوبر 2021، قد أطلق ديناميات الخلاف السياسي من عقالها، وعدَّلَ موازين القوى لصالح القوى الداعمة للانتقال السلمي الديمقراطي، إن عملت القوى السياسية وحركة المقاومة الشبابية على توحيد أطرافها، وتوافقت على معالجة خلافاتها ورمَّمتَ تشققاتها، من أجل صيانة العملية الانتقالية. وربما من أهم افرازات الانقلاب، هو توسيعه للهوة وتعميقه للانقسام بين أطراف قوى الحرية والتغيير (المدنية) التى وقعت على الوثيقة الدستورية الانتقالية. فلم يَعُد الصراع السياسي فقط بين المجلس المركزي، ومجموعة الميثاق الوطني، لقوى الحرية والتغيير، من جهة، وبين قوى المجلس المركزي والمكون العسكري في مجلس السيادة، من جهة أخرى.

فقد أطل الخلاف القديم بوجهٍ سافرٍ بين الحزب الشيوعي وحلفائه من أحزاب وتجمع المهنيين، من ناحيةٍ، وأطراف قوى الحرية والتغيير المشاركة في الحكومة (حزب الأمة، البعث، التجمع الاتحادي، المؤتمر السوداني، وحلفائهم من الأحزاب وتجمع المهنيين- السكرتارية المنتخبة)، من ناحيةٍ أخري. ففي رأيي، أنَّ وصف انشقاق قوى الحرية والتغيير بأنه ينحصر بين هذه الأطراف الأربعة (ما درج على تسميته ب”أربعة طويلةّ”) وأطراف الجبهة الثورية (الحركات المسلحة) المشاركة في الحكومة، غير دقيق.

إذن، فالخلاف الذي نشبَّ بعد الانقلاب لم يكن بين شركاء الحكم المدنيين وأطراف العملية السلمية (الحركات المسلحة، وتحديداً حركتي تحرير السودان والعدل والمساوة) المشاركين في الحكومة الانتقالية، بل هو بين الداعين للعودة إلى وضع ما قبل 25 أكتوبر وأولئك المطالبين يصياغة وثيقة دستورية جديدة. وثانياً: لم يَعُد الخلاف بهذا العنوان مُقتصراً على أطراف تحالف قوى الحرية والتغيير بل تعداهم ليشمل: الحركة الشعبية (بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو)، وحركة تحرير السودان (بقيادة عبد الواحد النور)، قطاعات واسعة من لجان المقاومة، والعديد من التنظيمات الشبابية وأحزاب وكيانات أخرى، كُلها دَانَت الانقلاب بوضوح.

حقيقةً، هذا الخلاف الذي احتدم بين أطراف قوى الحرية والتغيير (المدنية) حول العودة إلى، أو إلغاء الوثيقة الدستورية، جاء مُخيباً للتوقعات والآمال بالخروج من الأزمة. فقد وفر الانقلاب فرصة للتوافق والوحدة، أهدرتها هذه القوى، والتي، للمفارقة، عبرت جميعها عن موقفٍ موحدٍ مناهضٍ للانقلاب. وربما الأدهى وألأمَرُّ، تبدو هذه القوى وكأنها أدمنت إهدار الفرص الواحدة تلو الأخرى لتحقيق الوحدة والتماسك. فقد هيأ الاتفاق السياسي، بين رئيس مجلس السيادة ورئيس مجلس الوزراء، بعد فكِ أسرهِ من المحبس في 21 نوفمبر 2021، سانحة أخري لهذه القوى المتخاصِمة للتوافق. فقوى الحرية والتغيير (ما عدا مجموعة الميثاق الوطني)، وحركة المقاومة الشبابية، من جِهةٍ، والحركة الشعبية شمال (الفريق عبد العزيز الحلو)، وحركة تحرير السودان (القائد عبد الواحد النور)، من جِهةٍ أخرى، جميعها توحدت على رفض الاتفاق السياسي، باعتباره مجرد “شرعنة” للانقلاب. وعلى إثر ذلك، زال الخلاف بين الدعوة للعودة إلى الوضع الدستوري لما قبل 25 أكتوبر، والمطالبة بترتيبات انتقالية جديدة، بعد أن تخلى المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير عن التمسك باستعادة الوثيقة الدستورية المُنقلبِ عليها. فقد اجتمعت الأطراف المتباينة لهذه القوى على موقفٍ واحدٍ وموحدٍ ينادي يصياغة وثيقة دستورية جديدة تؤول من خلالها السلطة كاملة للمدنيين.

أتاح هذا الموقف المُوحد سانحة جديدة للبناء على هذه الأرضية المشتركة، بجانب تطويره من خلال المناظرة والحوار الصادق، حتى يتم التوصل إلى ميثاق سياسي يخرج بالبلاد من هذه الأوضاع المحتقنة. ولكن، عِوضاً عن اِهْتِبال هذه الفرصة، جنحت أطراف هذه القوى السياسية إلى طريق التنافر والتناحر، مما زاد التصدع ووسع الفجوة بينها. فمنذ منتصف يناير من هذا العام، تشهد الأسافير ومختلف منصات التواصل الاجتماعي حرب تبادل بالاتهمات، ورمي كل طرف الآخر بالنعوت والأوصاف، بين أطراف المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وقيادات الحزب الشيوعي. صحيحٌ أن دعوة الحزب الشيوعي لإسقاط الحكومة، منذ خروجه من التحالف الحاكم، في نوفمبر 2020، كانت مشابهاً لموقف الإسلاميين، ولكن بالطبع لا تتطابق معه في الأهداف والغايات. ولا يستطيع أحدٌ أن يشكك في، أو يزايد على الموقف المبديء للحزب من الانقلاب ومن العلاقة مع العسكريين. ومع ذلك، على الحزب أن لا يقوم بتخوين، وإصدار الأحكام على الآخرين، ويتأبى عن التحاور مع شركاء الأمس، والمناهضين للانقلاب.

العنوان الرئيس للخلاف بين أطراف هذه القوى يتمثلُ في الموقف من الشراكة مع “اللجنة لأمنية للمكون العسكري”، والذي امتد ليشمل دعوة رئيس البعثة الأممية للحوار بين كافة الأطياف السياسية، والتي يرى الحزب الشيوعي وحلفائه أنها بمثابة خطة مبطنة للعودة إلى الشراكة مع المكون العسكري. وبالرغم من مناداة كل من هذه القوى بالوحدة وبناء جبهة موسعة مناهضة للانقلاب، ومركز قيادي مُوحد، إلاَّ أنها عجِزت تماماً عن الجلوس مع بعضها البعض بل اكتفى كل طرف بصياغة ميثاق أو خارطة طريق يدعو الآخرين إلى الانضمام إليه وشراء بضاعته. يجب أن لا تفتح جميع القوى السياسية أبواب توزيع الاتهامات وصك الأوصاف بالمجان والتنابذ بالالقاب وتخوين الخصوم السياسيين، فالمشكلة ينبغي أن تٌحصر في اختلاف الرأي وليس تقليل شأن بعضها البعض.

حانت ساعة الجلوس للحوار!

على هذه الخلفية، فإنَّ المسؤولية السياسية والأخلاقية تُملي على هذه القوى مخاطبة خلافاتها ومعالجة مُسبباتها، والابتعاد، ولو قليلاً، عن تمترُسِ كل فريق في موقفه، حتى لا تستغرقنا هذه اللعبة الصفرية بإمتياز، والتي تضع العصي في دواليب عملية الانتقال وقد تعصِفُ بوحدةِ البلاد وتفضي إلى تفكك الدولة. أفلم تحن ساعة جلوس هذه القوى المناهضة للانقلاب مع بعضها البعض في ظل هذا الظرف السياسي الحرِج؟

تعددت المواثيق المُقدمة من أطراف هذه القوى، وتكاثرات المبادرات من الواجهات السياسية والمؤسسات الأكاديمية والكيانات المُجتمعية، حتى دفع رئيس البعثة الأممية بدعوته لإطلاق عملية تشاورية واسعة مع أطياف سياسية متباينة (يناير 2022). لا شك، إنَّ المُمعن النظر في هذه المواثيق والأطروحات يلحظُ تشابه موضوعاتها والتقاء مضامينها في الكثير من القواسم المُشتركة، فيما يلي التمسك بأهداف الثورة الرئيسة. الظروف الموضوعية السائدة الآن قد لا تكون مواتية لهذه القوى، في هذه المرحلة، للحوار حول كل هذه الوثائق بغرض المُواءمة والتوليف بينها، والخروج بوثيقة موحدة. ولذلك، ربما من المهم عاجلاً أن تبتدر قيادات هذه القوى السياسية، دون الحاجة إلى “مُسهل” أو “وسيط”، الدعوة إلى لقاء يجمعهم على أجندة محددة ومختصرة.

ففي رأيي، أن جوهر الخلاف الناشب بين أطراف هذه القوى، كما بينت، يكمُن في الشراكة مع المكون العسكري، والذي يُجسده شعار “اللاءات الثلاث”: لا مساومة ولا مشاركة ولا تفاوض، مما انسحب أيضاً على التعاطي مع دعوة رئيس البعثة الأممية، وعلى العلاقة مع القوى الداعمة للانقلاب. لذلك، فالمطلوب هو ابتداع منهج جديد للحوار الذي يبدأ باجتماع أولي لهذه القيادات تُفصِّل أجندته مكونات هذا الشعار، ويعزز الثقة المفقودة بين هذه القوى، كخطوة تمهيدية للانتقال إلى الحوار حول قضايا الانتقال المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، حتى يتم التوافق على ميثاق سياسي وخارطة طريق لاستكمال عملية الانتقال.

وبتفكيك اللاءات الثلاث، أقترح أن تختصر أجندة هذا الاجتماع التمهيدي على: 1) وضع ودور المؤسسة العسكرية والأمنية، بما في ذلك قوات الدعم السريع، وتصور تكوين جيش قومي واحد وموحد، وكذلك عملية إصلاح القطاع الأمني، 2) العدالة الانتقالية والعدالة الجنائية فيما يتصل بضحايا الثورة منذ فض الاعتصام وكل المليونيات التي لم تتوقف بعد، 3) الموقف من التفاوض مع سلطة الأمر الواقع، ومتى يُحين أجله، 4) التعامل مع المجتمع الدولي وصياغة رؤية موحدة إزاء هذا التعامل بما يتسق مع مُجمل مطلوبات الانتقال الديمقراطي، و5) تقييم الموقف من الإسلاميين، والقوى المسبعدة الأخرى، وبعضها أعلن رفضه للانقلاب، ومدى تأثيرها على مسيرة الانتقال، وهل يُمكن اقصائها هكذا بجرة قلم؟ (ذلك خاصة، وأن فترات الانتقال السابقة لم تشهد أي معارضة للحكومة الانتقالية، إلاَّ من حاملي السلاح في جنوب السودان حينذاك). إنَّ مخرجات هذا الاجتماع التمهيدي ستساعد كثيراً في إجلاء مواقف هذه القوى السياسية، وفي تقريب شقة الخلاف بينها حول كافة قضايا الانتقال، وتهيئة الحوار حولها في جلسات لاحقة، وبناء الثقة بينها.

 

قوى المقاومة الشبابية، والكفاح المسلح

 

بالطبع، لن يكتمل عقد هذا الحوار، في أيٍ من مراحله، ولن يُكتب له النجاح، بدون مشاركة قوى المقاومة الشبابية، من جِهةٍ، والحركة الشعبية (قيادة عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السودان (القائد عبد الواحد النور)، من جِهةٍ أخرى.

إنَّ الشباب ولجان المقاومة هُم مَن وفَّر الوقود وبذل الشُهداء وقدَّم التضحيات وقاموا على قيادة الحراك الثوري في كُلِّ أنحاء البلاد، وحتى ساعة سقوط نظام الانقاذ في أبريل 2019، وإلى الآن. وبالرغم من ذلك، إلا أنهم لم يُحسَبُوا طرفاً في الوثيقة الدُّستوريَّة وليس لهُم تمثيلٌ في أيٍ من مُؤسَّسات الانتقال، ولا في هياكل قُوى الحُريَّة والتغيير ومجلسها المركزي، الذي احتكر قيادة التحالُف، ولا في “مجلس شركاء الفترة الانتقاليَّة”، الذي أُنشأ في أعقاب اتفاقيَّة سلام جوبا، في أكتوبر2020. لفتُ اِنتباه الثوار ولجان المقاومة، في رسالة مفتوحة، إلى أنَّ التحدِّي الرئيس الذي يظلُّ هُو ضرورة الانتقال من خانة العمل التنظيمي الحركي والنشاط الميداني إلى رحاب الفعل المُؤثر على صناعة القرار السياسي. فبعد فشل تجمُّع المهنيين في توفير القيادة القادرة على تحقيق مطالب الثورة العاجلة، وتفكك قوى الحرية والتغيير، تدارك الشباب ولجان المُقاومة مواقفهم وعملوا على مراجعة التجربة، والميل لقيادة أنفُسهم بأنفُسهم وفرض كينونتهم الخاصة، وبالنأي عن الاستقطاب السياسي الحزبي. فمنذ ذلك الحين، شرعت لجان المقاومة في ابتداع هيكل تنظيمي أفقي، وتشكلت تنسيقيات الأحياء للتنسيق بين أنشطتها الميدانية. انتقلت اللجان هذه الأيام لابتدار حوارٍ عميق ومُوسَّع حول مشروع الرُّؤية السياسيَّة، بغية التوافق على ميثاق موحد، يُرسم خارطة طريق قابلة للتنفيذ لما يُريدون. (الواثق كمير، “إلى الثوار ولجان المقاومة: أرموا قِدام!”، سودانايل، 30 ديسمبر 2020).

وبقدر أهمية التوافق على هذا الميثاق الموحد، فربما الأهم هو تحديد آليات التنفيذ الضرورية واللازمة، فالمواثيق ظلت دوماً معلماً في تاريخنا السياسي، ولكن بسبب افتقادها لأدوات الفعل والتطبيق لم تُضف شيئاً على عملية التغيير في البلاد. هُناك عوامل ثلاثة رئيسيَّة ينبغي ألا تغيب عن ذهن الشباب وقيادات المقاومة، أو تفوت على فطنتهم، وهُم في أتون حراك المُقاومة الميداني وهي: “الرُّؤية الواضحة، القيادة، والتنظيم”، وأن لا يستغرقوا فقط في، بل و يُقدِموها على “اللاءآت الثلاث”. غياب هذه الركائز تسببَّ في في فشل “ائتلاف شباب الثورة” في مصر في يناير 2011، وفي تبعثر قياداتها، فهم الآن إما خلف القضبان أو اختاروا اللجوء السياسي أو اعتزلوا النشاط السياسي نهائيا وتفرغوا الى حيواتهم العملية. فهكذا، “خرج شباب ميدان التحرير من “مولد الثورة” بدون حمص.

قد لا تكون لغالبية شباب قوى المقاومة علاقة بالأحزاب، بل والبعض قد لا يعلم عنها شيئا، وقد لا يطيقها البعض الآخر، لمجرد أنها في أعينهم تمثل “الجيل القديم” الذي لم يورثهم إلا عُسرا. ومع ذلك، لعل الشباب يدركون أنه لا غنى عن الأحزاب السياسية، طالما ارتضينا طريق التحول الديمقراطي، فهي تشكل الأعمدة التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي التعددي، الهدف الأساس الذي ينشده شباب التغيير. وفي الواقع، هناك أعداد من شباب هذه الأحزاب المتمرد على جيل القيادات وسياساتها، وظلوا مشاركين بفعالية في كل هذه السلسلة من المقاومة والاحتجاجات. إنَّ الاطلاع على توجهات وبرامج الأحزاب السياسية المختلفة يسهل لشباب قوى المقاومة تحديد مسافات الاقتراب من، والافتراق بينها وبين هذه الأحزاب، أو عليهم الركون إلى تنظيم أنفسهم سياسياً بأي شكل يرونه مناسباً لسماع واسماع صوتهم. إنَّ تصدي لجان المقاومة لقيادة الحراك الثوري، طوال الفترة الماضية من الانتقال، تُفرِض عليهم تحمُل المسؤولية باعتبارهم قوة سياسية يُعتد بها، فحتى القوى السياسية الحزبية تنتظر وتتطلع إلى الميثاق التي تعكُّف اللجان على صياغته وحشد التوافق حوله. إن الاجتماع المقترح، للحوار التمهيدي بين القوى المناهضة للانقلاب، هو بمثابة تمرين للقوى الشبابية ولجان المقاومة في الفعل السياسي، لتطويرِ وتجويدِ هذا الفعل، ويُسهل فهمهم لتعقيدات الأزمة السياسية والمجتمعية الماثلة أمام أعيُّننا!

على الضفة الأخرى، فإنَّ موقفَ الحركة الشعبية شمال وحركة تحرير السودان (غبر الموقعتين على اتفاق سلام جوبا) المناهض للانقلاب والرافض للاتفاق السياسي، والمعترض على دعوة البعثة الأممية، ظل واضحاً وموحداً. ومع ذلك، فلكل منهما منهجه الخاص لمقاربة الوضع السياسي الراهن الذي أنتجه انقلاب فض الشراكة. فلدى رئيس حركة تحرير السودان، القائد عبد الواحد النور، مبادرة ما فَتِيءَ يرددها، وإن لم يُفصل آليات تنفيذها، تدعو إلى عقد مؤتمر “الحوار السوداني-السوداني” داخل الوطن (بعد زوال السلطة الانقلابية)، بمشاركة الجميع ما عدا “المؤتمر الوطني”، للحوار بهدف مخاطبة جذور الأزمة. أما الحركة الشعبية شمال، بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو، فموقفها يقوم على ركيزتين، أولهما: دعم حركة المقاومة الشبابية والمشاركة في المليونيات، وثانيهما: التفاوض مع الحكومة التي تأتي بها الثورة، مما دفعها لوقف التفاوض مع السلطة الانقلابية. ومع ذلك، لم تكن الحركة (وكذلك حركة تحرير السودان) من الموقعين على إعلان قوى الحرية والتغيير، كما بقيت خارج نطاق أي تحالف معلن مع القوى السياسية، رغماً عن تواصلها مع بعض هذه القوى.

في ظل هذا الواقع، إرى أنه بات من المهم لقيادة الحركتين المشاركة في الحوار المقترح مع بقية القوى السياسية وقوى المقاومة حول الأجندة المحددة المستخلصة من “اللاءآت الثلاث”، كخطوة أولى لفتح آفاق الحوار بين هذه القوى. فمشاركة رئيس حركة تحرير السودان في هذا الحوار لا يتناقض مع، بل تُعزز مبادرتة الموسومة “الحوار السوداني-السوداني”، فالمساهمة في الحوار لا تُبطل مبادرته. أدرِكُ وأتفهمُ جيداً خيار الحركة الشعبية شمال للتفاوض كوسيلة أساسية لتحقيق أهداف التنظيم، ولكني أيضاً لا أظن أن المشاركة في هذا الحوار تنتقص أو تضُر بالمفاوضات، حين يتم استئنافها. حقاً، لقد كان الزعيم الراحل، جون قرنق، يقول “بصفتي مُقاتلاً من أجل الحرية ، لا يمكنني التخلي عن سلاحي الآخر ، “سلاح لساني”، فلماذا أُجرد نفسي من هذا النوع من السلاح؟”، ولو كان يقصُد التفاوض مع نظام الإنقاذ.

فهكذا، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات، أقامت الحركة الشعبية تحالفات مع جميع القوى السياسية الحديثة والتقليدية، بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني. ولعبت الحركة دوراً محورياً في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكادام (إثيوبيا)، مارس 1985، حتى أصبحت عضواً فاعلاً في التجمع الوطني الديمقراطي. وبِحكم الظروف الموضوعية آنذاك كانت غالب اجتماعات الحركة مع القوى السياسية تُعقد خارج السودان، أما الآن فقد تم تفويض قيادة للحركة في المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة. فما الذي يمنع قيادة الحركة الشعبية شمال من المشاركة في الحوار التمهيدي مع بقية القوى التي تشترك معها في الموقف من الانقلاب، وما تبعه من تداعيات؟ وخصوصاً، أن للحركة تفاهمات مُسبقة مع عددٍ من القوى السياسية، من بينها الحزب الشيوعي، وتجمع المهنيين، والحزب الاتحادي الديمقراطي (الذي ظل يدعم موقف الحركة الشعبية حول قضية الدين والدولة منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي) .

خاتمة

أختم، بأنَّ الإرادة السياسية الوطنية، وديناميات الصراع السياسي وموازين القوة، هي التي ستحدد كيف تتم عمليتي الإسقاط والتغيير هذه المرة، خاصة في ظل ثورة ما زال أوارها يَلفح، وسلام لم تكتمل حلقاته بعد”. وحقيقة، لا أدري لماذا لا تستشعر جميع هذه القوى المسؤولية وتتواضع على الجلوس مع بعضها البعض، ولو في حوار تمهيدي حول أجندة محددة، يستدعيه إنسداد الأفق السياسيي الذي تكابده البلاد؟ فالقوى السياسية، التجمع الوطني الديمقراطي، التي كانت تعارض نظام الإنقاذ، لم تتوصل إلى مؤتمر القضايا المصيرية إلاَّ بعد سلسلة من جلسات الحوار والتفاهمات الثنائية (1990-1995)، في القاهرة ونيروبي وشقدم وأديس أبابا، حول قضايا مُحددة حتى تمت صياغة مُخرجاتها مُجتمعةُ في مُقررات أسمرا.

 

إذا كان شعار لا شراكة ولا تفاوض ينطبق على العلاقة بين هذه القوى السياسية والمكون العسكري، فينبغي أن لا تُطبقه هذه القوى المناهضة للانقلاب للقطيعة بين أطرافها. فالحوار بينها هو الطريق الوحيد والسليم للإعداد وللاستعداد للتفاوض مع المكون العسكري، في حالة خروج اللجنة الأمنية من المشهد (كما هو مرغوب)، إلا إذا كان عدم التفاوض خياراً أبدياً. وبنفس القدر، فإنَّ هذا الحوار هو الذي يُحدد موقف هذه القوى للتعامل مع المجتمعين الإقليمي والدولي. وأخيراً، كما نطالب الإسلاميين بالمراجعة ونقد الذات، فلا يستقيم أن لا تستفيد هذه القوى السياسية من تجاربها التاريخية وأن لا تُخضِع تجربتها، خلال الفترة الماضية من الانتقال، للدراسة، فإعادة انتاج سيناريو أبريل 2019، لن يثمر إلاَّ عن نتائجٍ أسوأ.