العلمانية فعل تنويري فكري وليست شعارا سياسيا

الأزمة الحقيقية في السودان والمعوق الرئيسي لتقدمه هو تسييس الفكر مع أن المطلوب هو فكرنة السياسة، فالسياسة في السودان هي مجرد عضل بلا عقل، وكتل جماهيرية تتحرك بإشارة زعيم الطائفية الدينية الذي لا يساءل ابدا ويعتبر الخروج عن نفوذه مروقا من الملة، والمشكلة هي أن المثقفين يتنافسون مع هؤلاء الزعماء في الضجيج والحنجرة _ كما يقول المصريون _ دون التعامل مع الافكار والنظريات والرؤى .

بقلم: د. حيدر إبراهيم علي

الأزمة الحقيقية في السودان والمعوق الرئيسي لتقدمه هو تسييس الفكر مع أن المطلوب هو فكرنة السياسة، فالسياسة في السودان هي مجرد عضل بلا عقل، وكتل جماهيرية تتحرك بإشارة زعيم الطائفية الدينية الذي لا يساءل ابدا ويعتبر الخروج عن نفوذه مروقا من الملة، والمشكلة هي أن المثقفين يتنافسون مع هؤلاء الزعماء في الضجيج والحنجرة _ كما يقول المصريون _ دون التعامل مع الافكار والنظريات والرؤى .

المطالبة بذكر العلمانية في الدستور أو الاتفاقيات هو المقابل الموضوعي لمطلب تطبيق الشريعة في الدستور، ووجه آخر لشكلانية مضمون الدولة المدنية.

أكبر الدول العلمانية لا تجد ذكرا للمصطلح في دساتيرها، ولكنها تمارس العلمنة على ارض الواقع وهذا هو المطلوب . والعكس ممكن ذكر العلمانية في الدستور وتكون الممارسات دينية بامتياز! المطلوب من المثقفين أن يكتبوا ويناقشوا فصل الدين عن الدولة أو السياسة وأن ينتقدوا وينقدوا الدولة الدينية واثبات فشلها وعجزها، اي أن يرفدوا المكتبة والجامعات بالدراسات والكتب عن العلمانية وليس اعتلاء المنابر والليالي السياسية وتهييج الجماهير ضد العلمانية وهم يقصدون كسب تأييدها .

أثناء الثورة الفرنسية قالت مدام رولان حسب ظني _ قولتها الشهيرة : أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك ! وأظنه من الممكن استشعار هذا الوصف ليطبق على العلمانية هذه الايام في السياق السوداني .

فقد تحول المفهوم من مطلوب فكري يجب أن يشتغل عليه المثقفون والمفكرون وأن يغرسوه في الواقع السوداني إلى شعار سياسي للمزايدات والخصومات وحب الظهور.

بداية العلمانية لا يحققها الدستور فأغلب الدول العلمانية لا تنص دساتيرها صراحة على ذكر العلمانية ولكنها تمارس فعليا فصل الدين عن السياسة والدولة . علمانية تركيا كمال أتاتورك كانت قرارا فوقيا وها هي تركيا حاضنة للإخوان المسلمين والجماعات التكفيرية من كل أنحاء العالم .

لم أكن مرتاحا لطرح مطلب العلمانية في مفاوضات السلام بجوبا . ورغم أنني أعلم أنه من المحرمات أو التابوهات السياسية المستجدة : نقد الحركات المسلحة أو الحركة الشعبية أو الجبهة الثورية وصار الكثيرون يترددون كثيرا قبل توجيه النقد ولو كان صديقا لهذه المجموعة وهذه ظاهرة خطيرة على الديمقراطية السودانية . لابد لهم أن ينقدوا ذواتهم وأن يقلبوا النقد بكل تسامح ورحابة صدر . ومن هنا أقول أن واجب هذه الحركات هو تسهيل عملية السلام والإسراع بها حتي نبدأ في بناء : وطن موحد قومي ديمقراطي تقوم دولته علي حقوق ا لمواطنة والمساوة بين الجميع مشاركين في السلطة والثروة بلا تمييز، وفي هذا السودان الجديد يمكن وضع بنيات ثابتة للعلمانية . فقد كانت بداية العلمانية في أوروبا والغرب ثورات فكرية تتسلح بالعقل والعلم والحرية استطاعت خلخلة واقتلاع التزمت الديني من خلال الاصلاح الديني والثورة الفرنسية ونشر الافكار الديمقراطية والاشتراكية بين الجماهير والنخب . لم تكن العلمانية عملا سياسيا فقط بل هي ثورة العلم والعقل والانتاج . يعجبني قول رفاعه رافع الطهطاوي عن النهضة : هي الحرية ، والفكر والمصنع . هذه هي العلمانية أيضا .

أزعجني بالاسم عنوان متداول يقول : “الجبهة الثورية تطلق النار على قوي الحرية والتغيير ” وفي نفس اليوم كان رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم يطلق عليهم النار ويهدد الثوار جميعا بالتصفية الكاملة وليس دفع الدية بل دم جديد سيسيل . وهذه مفارقة مؤلمة أو يجد الثوار أنفسهم في نفس خندق السدنة والارهابيين .

نؤيد العلمانية بلا تحفظ ولكن الاولوية للسلام وإعادة بناء دولة السودان الجديد حقيقة وليس هتافا ومجرد كلام ومزايدات . الإسراع بالسلام هو مطلب الثوار لإنجاح المرحلة الانتقالية.