السجائر والمكيفات وأخلاق الحرب

في عطلة نهاية الأسبوع المنصرم تم تداول فيديو طريف يكشف الجانب المهمل من الحرب. يظهر في الفيديو مجموعة يفهم من حديثها انهم مقاتلين في الدعم السريع وضعوا يدهم، أو أنزلوا مسيرة محملة ببعض المؤن في طريقها للقيادة العامة للجيش حيث تقبع مجموعات من العسكر مازالت تحت حصار الدعم السريع.

من بين المؤن القليلة التي استطاعت الطائرة المسيرة الصغيرة حملها طرود صغيرة مغلفة بعناية تحوي أدوية وسجائر وسعوط كانت في طريقها للمحاصرين، وعلى كل طرد اسم ورتبة الشخص المرسل إليه.

للوهلة الأولى يبدو وكأن الأمر يتعلق بحفل شماته وتشهير بالاسم والرتبة بحق المحاصرين الذين حرموا من الكيف المحقق الذي كان في الطريق إليهم.

ولكن تعليقات الذين شاهدوا الفيديو فتحت الباب على تأمل كم هي الحرب قاسية ولا إنسانية. الكثير من المعلقين أبدوا اسفهم لحرمان المحاصرين من حقهم في الحصول على أدوية وقهوة وسجائر، أشياء لا بد منها لعدل المزاج خاصة حين يكون الفرد في حالة حرب وبينه وبين الموت خيط رفيع.

فكرة الرأفة بالخصم لم تكن بعيدة في يوم من الأيام من مشهد الحرب وتفاصيلها. علماء اجتماع كثر استجوبوا جنود سابقين حول تجربتهم مع الحرب وقتل انسان آخر. معظمهم أقروا بأنهم حين التصويب على الخصم يتعمدون عدم إصابته من المرة الأولى، وكأنهم يرسلون تحذيرا بالرصاصة الأولى وإعطاءه فرصة للهرب أو الاستتار والتحصن.

هذا يدعو للتساؤل إن كان الشر ونزعة الايذاء أمر مستأصل في الانسان؟ معظم إجابات علماء النفس والاجتماع والمؤرخين والمهتمين بهذا الجانب تقول بأن الانسان كائن مسالم بطبعه وحب الأذى ليس مكونا أساسيا في نفسيته وسلوكه.

ولكن الاقتتال والعراك الذي يؤدي لإزهاق روح الاخر قديم قدم حادثة هابيل وقابيل. الذي تغير عبر الزمن هو التوافق على نوع من أخلاقيات القتال. في مبارزة من تلك التي تحدث كثيرا بين الافراد قبل قرون مضت، لا يمكنك إيذاء الطرف الآخر إن سقط سيفه. ولا يمكنك إيذاء من يسقط ارضا حتى يقف مرة أخرى على رجليه في حالة الصراع بأيدي خالية.

والهارب من المعركة لا يلاحق ولا يطعن في الظهر.. الى آخر النسق من مثل هذه الأعراف والتقاليد والقوانين الصامتة غير المكتوبة.

في الحروب الحديثة التي تميزت بالضراوة بسبب استخدام أسلحة متطورة ذات كثافة نيران عالية وسيارات مدرعة وطائرات، برز للمرة الأولى الوجه القبيح والوحشي للحرب. معروف ان الحروب تقول أساسا بهدف تحطيم مقدرات الطرف الآخر العسكرية، وتحطيم البنى التحتية والاقتصادية بحيث يحدث الاستسلام وانهاء الحرب.

ولكن منذ الحرب العالمية الأولى واستخدام الطائرات في الحرب أصبح الموت يأتي لأول مرة من جميع الاتجاهات بما فيها السماء، الأمر الذي يقول البعض إنه المدخل الأغرب للحداثة.

ثم استخدمت الأطراف المتحاربة غاز الخردل الذي يتسلل للفرد وإن دخل جحرا في باطن الأرض. ليتأكد أن الحرب تستهدف الأفراد وليس المقدرات الخاصة بالدولة.

ومع ذلك ظل الوجه الإنساني والفطرة الإنسانية السليمة حاضرة في ضراوة الحرب. يصف المؤرخون كيف أن الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الأولى في احدى الجبهات في مساء الكريسماس حين بدأ الجنود يغنون اغنية الكريسماس فنهض جنود الطرف الآخر من خنادقهم وعبروا خطوط النار ليتبادلوا التهاني بعيد عن اسرهم، وتبادلوا ما يملكون من سجائر وشوكولاتة، ولعبوا الورق وتبادلوا القفشات، قبل أن ينفض الحفل ويعود الجميع للتمركز خلف تحصيناتهم.

ماذا لو سمح افراد الدعم السريع بوصول المؤن لإخوتهم خلف تحصينات الحصار؟ أم أن الحرب وصلت مرحلة تجاوزت معها كل خطوط الفطرة السليمة والأخلاق لدى الأطراف المتحاربة؟

سأصمت في هذا المقام عن حوادث القتل والذبح والسلخ وجميع التجاوزات من الطرفين التي تدخل في باب جرائم الحرب.

—————————-

إبراهيم حمودة – راديو دبنقا