التلوث الكيميائي في الخرطوم.. حقيقة أم شائعة؟

خريطة تظهر مدى جودة الهواء في الخرطوم ووجود ثاني اكسيد السلفر قبل وبعد الحرب- بحث علمي عن تلوث الهواء في الخرطوم -
الخرطوم: 3 سبتمبر 2025 – راديو دبنقا
مع تزايد عودة النازحين إلى الخرطوم، ارتفعت وتيرة الحديث عن تلوث كيميائي في المدينة جراء الحرب التي دارت فيها منذ 15 أبريل 2023 وحتى السيطرة عليها في أبريل الماضي، في حين سارعت وزارة الصحة الاتحادية، يوم الأحد، إلى نفي حدوث أي تلوث كيميائي أو إشعاعي في الخرطوم.
وعاد الجدل حول الأمر بعد أن تداولت وسائل التواصل بيانًا منسوبًا لنقابة الأطباء الشرعيين يشير إلى أن الخرطوم غير صالحة للسكن بسبب التلوث الكيميائي، لكن اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء تبرأت من البيان، مؤكدةً أن النقابة المذكورة حُلّت نفسها قبل أعوام بعد انتخاب اللجنة التمهيدية، كما أكدت اللجنة أنها لا تستطيع إثبات أو نفي حدوث تلوث كيميائي في الخرطوم.
وكان مؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي، مساندون للجيش، قد تداولوا معلومات إبان معركة القصر الجمهوري بين الجيش والدعم السريع، تفيد باستخدام الغاز، دون أن يشيروا إلى المصادر التي استقوا منها المعلومات.
وفي يونيو الماضي، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على الجيش بشأن استخدامه السلاح الكيميائي. ومن جانبها، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في يناير الماضي أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية مرتين على الأقل في مناطق نائية خلال حربه مع قوات الدعم السريع.
كما نقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين، لم تكشف هوياتهم، أن السلاح المستخدم يبدو أنه غاز الكلور، الذي يمكن أن يسبب ألمًا شديدًا في الجهاز التنفسي وصولًا إلى الموت، فيما نفت الخرطوم استخدام أسلحة كيميائية.
كما استند ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي على قرار السلطات بإخلاء وسط الخرطوم ونقل جميع المؤسسات إلى خارجية والذي اعتبروه مؤشرا لصحة ما ذهبوا اليه من وجود تلوث لكن السلطات قالت إنها اتخذت القرار لارتفاع تكلفة الصيانة والتركيز على توفير خدمات الكهرباء والمياه.
تلوث كيميائي وأمطار حمضية
كانت الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية، د. منى علي محمد، قد كشفت في أكتوبر من العام الماضي، في ورشة عقدت في بورتسودان، عن تعرض ولاية الخرطوم لتلوث كيميائي بسبب ضرب قوات الدعم السريع للمناطق الصناعية، مشيرةً إلى ضرورة تضافر الجهود لإيجاد الحلول لهذه المشكلة.
وقالت، خلال ورشة تدريبية حول مخاطر المواد الكيميائية بقاعة الجمارك ببورتسودان، إن ولاية الخرطوم بشكل خاص تحتاج إلى مجهود كبير تفاديًا لأي سلبيات محتملة.
وأضافت أن التلوث بالمواد الكيميائية أمرٌ شائع، بسبب وجود المواد الكيميائية في كثير من المنتجات بدرجات متفاوتة، وهي قابلة للتسبب في التلوث، ما يتطلب التوعية المكثفة على المستوى القومي والولائي والمحلي، وعلى مستوى الأفراد.
وكررت د. منى علي محمد، الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة، ذات الحديث خلال مخاطبتها مؤتمر وزراء البيئة العرب (الدورة 35) المنعقد في جدة في أكتوبر من العام الماضي، حيث أكدت أن الخرطوم وما جاورها تعرضت لتلوث كيميائي كبير جدًا نتيجة الاستهداف، وشهدت الخرطوم أمطارًا حمضية تم رصدها عبر الصور الجوية للأقمار الصناعية، وذلك بسبب استهداف الدعم السريع خمس مناطق صناعية في العاصمة: ثلاثة في بحري (أكبرها)، وأخرى في أم درمان والخرطوم، إضافة إلى جياد الصناعية واليرموك الصناعية.
وأشارت إلى تقرير أعده المجلس الأعلى للبيئة بالتعاون مع UNEP من أول يوم للحرب، في إطار إعداد خطة علمية لتحديد الآثار البيئية لهذه الحرب، مشيرةً إلى أن التقرير أوضح الجريمة البيئية الكبيرة التي ارتُكبت في حق الشعب السوداني وأغفل عنها العالم.
وقالت في كلمتها نصًا: “إن المراكز الصناعية تتركز في العاصمة: ثلاث مدن في بحري أكبرها، وفي أم درمان والخرطوم، وجياد الصناعية، واليرموك الصناعية، وهي خمس مناطق صناعية تم استهدافها، وهي تحتوي على مواد كيميائية، لذلك شهدت الخرطوم وما جاورها تلوثًا كيميائيًا كبيرًا جدًا نتيجة الاستهداف، وشهدت الخرطوم أمطارًا حمضية تم رصدها عبر الصور الجوية للأقمار الصناعية“.
نفي وزارة الصحة
قالت وزارة الصحة الاتحادية إن البيانات الواردة من الأجهزة الوطنية المختصة خلصت إلى عدم وجود أدلة علمية تدعم الادعاءات بوجود تلوث كيميائي أو إشعاعي في الخرطوم، حيث أظهرت القياسات والتقارير الرسمية أن الوضع العام لا يشكّل تهديدًا على الصحة العامة.
وقالت، في بيان يوم 1 سبتمبر، إنها توصلت إلى هذه الخلاصة بناءً على الأدلة والبرامج المتوفرة من القياسات الميدانية، ونظام الرصد الصحي، والتقارير الطبية الرسمية، مؤكدةً عدم وجود ما يثبت أن العاصمة أصبحت غير صالحة للسكن. وأكدت وزارة الصحة الاتحادية على أهمية الاستمرار بالمتابعة الدورية من خلال الرصد الصحي والمعاينة الدقيقة لضمان الاستجابة الفورية لأي طارئ صحي محتمل.
ولم تحدد الوزارة طبيعة الجهات الوطنية المختصة أو الأطراف التي شاركت في التحقق.
وأشارت الوزارة إلى أن الجهات الوطنية المختصة شرعت في عمليات تحقق ورصد علمية منذ مطلع أبريل 2025، عقب تحرير العاصمة، وذلك بعد حملات إعلامية تحدثت عن “عدم صلاحية العاصمة للحياة” نتيجة مزاعم تتعلق بالتلوث الإشعاعي واستخدام الأسلحة الكيميائية والتدهور البيئي.
وأشارت الوزارة إلى إجراء قياسات إشعاعية باستخدام أجهزة معتمدة من الهيئة الدولية للطاقة الذرية في مواقع محددة: مستشفى الذرة، معمل أستاك، معمل الأبحاث البيطرية بسوبا.
كما استخدمت أجهزة الكشف الميداني Chempo المعتمدة من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فضلًا عن متابعة نظام التقصي الوبائي القومي التابع لوزارة الصحة الاتحادية لرصد أي حالات غير اعتيادية، وتقارير الطب العدلي والجنائي، والمتابعة المستمرة من المجلس الاستشاري للطب العدلي بوزارة الصحة الاتحادية.
وأوضحت أن أبرز النتائج والمخرجات تتمثل في عدم تسجيل أي ارتفاع في مستويات الإشعاع أو تحريك للمصادر المشعّة، كما لم يتم العثور على مخلفات أو ذخائر غير اعتيادية مرتبطة بمواد كيميائية.
وأشارت إلى أن نتائج الكشف الميداني لم تُظهر دلائل سامة أو مواد كيميائية.


بلاغات بأمراض متفرقة
وأكدت الوزارة أن أنظمة التقصي الوبائي سجّلت بلاغات بأمراض فردية متفرقة، لا تشير إلى تسمم كيميائي جماعي، مشيرةً إلى أن تقارير الطب العدلي لم توثق أسباب وفاة غريبة أو غير واضحة مرتبطة بمواد كيميائية.
وأكدت أن الاستشاري الوطني للطب العدلي لم يرصد حالات وفاة تحمل علامات مميزة للتعرض لمواد سامة (مثل التهيج الرئوي، القيء الدموي، التشنجات).
ونوّهت إلى أن معظم الشكاوى الصحية الواردة تتعلق بأعراض الإسهال والصداع والحمى، التي قد تكون مرتبطة بالأمراض البيئية الشائعة (الملاريا، الكوليرا، الإنفلونزا الموسمية).
ولفتت إلى رصد أضرار بيئية تتعلق بتدمير المصانع والمقار الحكومية.
وحول التحديات التي واجهت عمل التحقق، قالت الوزارة إن ضعف الخدمات الصحية في العاصمة نتيجة الحرب يمثّل أولى التحديات، بجانب انتشار الأمراض الوبائية مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، فضلًا عن تأثيرات الأوضاع الكارثية على الصحة النفسية لبعض المواطنين.
وأوصى التقرير بالاستمرار في المراقبة والرصد البيئي والصحي بشكل دوري، وتعزيز الجاهزية الصحية لمواجهة الأوبئة المنتشرة، بجانب تفعيل نظام الرصد المرضي والطب العدلي لمتابعة أي مستجدات.
رأي فني
اعتبر الاستشاري الصيدلي والخبير البيئي بمركز دلتا للدراسات والبحوث العلمية والبيئية، د. طه الطاهر بدوي، أن الحديث عن التلوث، وخاصةً في مناطق الزراعات، يحتاج إلى جهد علمي مضاعف.
وقال بدوي، في حديث لـ”راديو دبنقا”، إن الآثار الخاصة بالتلوث تتمثل في مجموعة من الظواهر مثل: الحرائق، والانفجارات، والعناصر المنبعثة من البارود، والعناصر الكيميائية الثقيلة، والشظايا والمقذوفات غير المتفجرة، وتدمير النظم البيئية، وتلوث المياه والهواء والتربة، وتدمير النظم البيئية وفقدان التنوع البيولوجي، والتأثيرات على الغطاء النباتي والقاري، وتدمير البنية التحتية المدنية والصناعية والسكنية، وانتشار الجثث.
وأضاف الخبير في مجال البيئة أن التلوث الكيميائي يحتاج إلى مفاهيم علمية يمكن قياسها من خلال المعامل، ويحتاج إلى جهد علمي وعلماء يرقبون ذلك، وهو من أخطر أنواع التلوث ويسبب الموت لكل الناس الذين يتأثرون به.
وأوضح أن الحديث عن تلوث في منطقة معينة كيميائيًا، يتطلب ربط مجموعة من الأمور مع بعضها البعض، بدايةً من الحوادث التي تسببت في هذا التلوث، والقياسات التي تتم عبر المعامل، والوصول إلى النتائج ونشرها في ظل مجموعات حاكمة تقتنع بذلك.
وحذّر من أن التلوث الكيميائي يؤثر على الناس في المدى القصير والبعيد، مشيرًا إلى أنه من أخطر الظواهر التي يجب التعامل معها بحذر وحنكة وفهم علمي عبر اختصاصيين واستشاريين.