ضحايا مجزرة نيالا جراء بحي السكة حديد جراء القصف المدفعي في معارك الجيش والدعم السريع - المصدر وسائل التواصل الاجتماعي


الإثنين:26/فبراير/2024: راديو دبنقا
تقرير: سليمان سري
ظل طرفا الصراع يتنافسان على مواقع التواصل الاجتماعي منذ اندلاع الحرب، وكأنما نقلا معاركهما على الإعلام، بل من يتلقى الهزيمة في الميدان سرعان ما يعوضها على الإعلام بكل أنواعه الرسمي وغيره، مع عرض صور ومقاطع للقتلى والضحايا وكل الدلائل التي تثبت انتصاره وسيطرته على العدو. مع ممارسة التضليل.
الهدف المعروف من بث هذه المقاطع والصور هو هزيمة العدو معنويًا، لكن هناك هدف خفي هو ارهاب المدنيين العزَّل وتخويفهم في رسالة واضحة لكل من يعارضهم أو يخالفهم الرأي سيواجه هذا المصير، خاصة شباب الثورة ومن صنعوا التغيير الذين كانوا مستهدفين من طرفي الصراع.
في البداية ظهرت مجموعة من قوات الدعم تمثل بجثة والي غرب دارفور الذي قتل في يونيو الماضي، ثم ظهر أفراد من الجيش السوداني في فبراير الجاري يحملون رؤوسا مقطوعة يدعون أنهم من عناصر قوات الدعم السريع، كلا المشهدين كان صادمًا ووجد رفض واستنكار واسع.
راديو دبنقا استطلع خبراء في مجال الطب والصحة النفسية لمعرفة مدى خطورة تأثير هذه المشاهد على كل الفئات والشرائح، أطفال، شباب، نساء، كبار سن، ودرجات التأثير على كل فئة.
يشير استشاري الصحة النفسية د. ياسر موسى إلى أن العنف المستخدم باسم الإسلام والدين في مشاهد نراها بكثرة في تكفير فئة وإباحة دمها لمجرد أنها صدحت بالرأي مخالف، هذا للأسف دائما ما يخلق حالة العنف الفظيعة هذه لأنه البيئة أصبحت مولدة للعنف. وهنا تكمن الخطورة إذ أن آثار الحرب لا تختفى بمجرد انتهاء الحرب بل سنعاني من تشوهات كثيرة لفترة طويلة من الزمن.
ويقول في حديثه لـ”راديو دبنقا” معلقا على مقطع الفيديو المذكور “دعونا نرى آثار القسوة والمشاهد الوحشية والعنيفة خاصة مشهد جنود القوات المسلحة، وهم يحملون رأسين تم قطعهما من جسديهما، فأي صدمة وأي قسوة وأي وحشية في مشاهدة هذا المنظر وما أثر ذلك علينا..؟!
ويؤكد أنه من افظع نتائج هذه الحرب أن يصبح مثل ذلك المشهد للاحتفال والاحتفاء تتناقله الوسائط والأخبار، هذا في حد ذاته نتاج لأثر نفسي ويوضح حدود معاناة المجتمع من الوحشية والقسوة.

العنف في التمثيل
ويرى استشاري الصحة النفسية أن مشهد الجنود وهم يرفعون رؤوس لأشخاص زعموا أنهم يتبعون لمليشيا الدعم السريع، في حد ذاته جريمة كبيرة في حقنا كمواطنين لأنه ليس قتلا لشخصين فقط، بل قتل لروح التسامح فينا جميعا وقتل لروح الثقة في الآخر والاستعداد النفسي في أنه نبني بلدنا من جديد، هذا كله كان ضحية لهذا المشهد القاسي.” ويقول إنّ هذه من الآثار النفسية العميقة جدًا التي تظهر وأولها يكون في فقدان الثقة في الآخر واستمرار في حالة من الوساوس والشكوك، بأنك ممكن ان تصبح ضحية لمثل هذا المشهد.
ويؤكد أن مشاهدة العنف حتى في الأفلام والمسلسلات والتمثيل له أثره القاسي جدًا على المجتمعات والأفراد أطفالا كانوا أم شباب، فما بالك أن تكون هذه المشاهد حقيقية وليست تمثيلا. أن مشاهدة قطع الرؤوس تعود للتجربة الداعشية وبشاعة الإسلام السياسي المنتشر في نواحي كثيرة جداً وللأسف نحن في السودان جزء منه.


التعطش لسفك الدماء:
المشهد قاسٍ، كما يصفه د.ياسر موسى في حديثه لـ”راديو دبنقا”، ويمكن أن يصيب الناس بالخوف والقلق النفسي، و اضطرابات التركيز، والذاكرة، الإدراك واضطرابات الشخصية. بالإضافة إلى ظهور ما يسمى بالشخصية المعادية للمجتمع وهي شخصية عنيفة ودموية جدًا وتتعطش لسفك الدماء ولا تستفيد من تجاربها ويمكن أن تلدغ من الجحر ألف مرة وتستمر في الأذى والقسوة على الآخرين وحتى على نفسه وهذا نوع من الاضطراب النفسي الحاد. بالإضافة إلى ظهور حالات فصام الشخصية واعراضها المتمثلة في الشكوك من حولنا، والإحساس بأنك دائمًا ضحية مؤامرة من حولك تبدأ من أٌقرب الأقربين لك كلهم يريدون التخلص منك، والإحساس بأنك أنت مراقب من قوة أخرى، هذا للأسف من الأمراض الذهانية والتي لا تستجيب للعلاج بسهولة.

ويواصل د. ياسر حديثه بالقول: “من خلال عملنا في عيادات اللاجئين في مصر لاحظنا اضطراب ثنائي القطب ” Bipolar “، وهذا النوع من الاضطرابات التي تصيب الشباب وتجعلهم في حالة من الكآبة القوية جدًا وتصل حد فعل الانتحار أو ايذاء الآخرين، أو يكون في حالة من الانبساط الذي ليس فيه هدف ولامعنى وحالة من الحركة والتجوال المستمر بلا هدف ولامعنى، وهذا نوع من الاضطرابات العقلية الذي يخلفها مشهد مثل المشاهد التي يحتفي بها البعض وينظر إليها كنوع من الانتصار.
وينوه إلى ان مشاهد، قطع الرؤوس خطرة جدا على المجتمع و تنشر عدوى العنف الوحشي وقد يشجع البعض على تقليدها.
ويحذر استشاري الصحة النفسية من آثار هذا المشهد أن تنعدم قيمة التسامح و يولد العنف، ويتابع: أن من أخطر الآثار علينا ونحن مجتمع مسالم في النهاية هذه الحرب ستنتهي نريد أن ننصرف لبناء بلدنا نريد ننصرف لحل مشاكلنا، لأن نعيش قابلين التنوع وتنوعنا الإنساني ونوظفه لمصلحتنا، باختصار نريد أن نبني بلدنا. لكن كيف يتم هذا.. لابد أن تتوافر حالة السواء والاعتدال وحالة الصحة النفسية والعقلية، لكي نستطيع أن نبني حياتنا وبلدنا من جديد.

سايكولجية الحرب:
أما استشاري الطب النفسي والأستاذ المساعد بجامعة الباحة السعودية د. أحمد الأبوابي فلديه وجهة نظر شاملة للحرب بكل تداعياتها وآثارها.. يقول الأبوابي في حديثه لـ”راديو دبنقا”: نستحضر في هذه المرحلة، الحرب، فهي في حد ذاتها لديها سايكولجية خاصة بها، لديها متلازمات نفسية خاصة بها، الحقيقة في فترة الحرب تغيب أشياء كثيرة مثل المشتركات الإنسانية والمحبة والتسامح، الحرب بطبيعتها تؤدي إلى العصبية ومع العصبية تجي أشياء مثل الغاية تبرر الوسيلة ومثل أنك تستبيح تجاه عدوك كل الوسائل الممكنة من أجل استضعافه ومن أجل هزيمته المعنوية والحسية.
ويعتقد أن المشكلة في هذه اللحظة أننا في القرن الحادي والعشرين نحن وارثين تراكم عالي جدًا من التجربة الإنسانية المليئة بالمشتركات الإنسانية، والوحدة الإنسانية والوجدانية بين الناس. يعني مع اختلاف جغرافياتهم وسحناتهم ودياناتهم وثقافاتهم وهكذا.

تقبل الفظائع:
ويعتقد استشاري الطب النفسي من أن أسواء ما في الحرب السودانية الحاضرة وغيرها من الحروب مثل حرب غزة، هي أن نتعود مع مرور الزمن بنحو تدريجي على أننا نقبل كثيرًا من الفظائع والبشاعات، التي يمكن أن تحدث باعتبار أن الاخر عدو سيء ارتكب كثير ا من الجرائم والفظائع وانه داهم البيوت واغتصب، كل الروايات الحقيقية وغير الحقيقية، تشكل لكثير من الناس ترسانة مبررات بإباحة كل شيء ضد الاخر.
ويقول لعله من أخطر الأشياء المرتبطة بهذه المسألة هو وجود النزعات القبلية والجهوية وهذه الحرب أحدثت فرز جهوي ضخم جدا بين من تسميهم بشرق الأبيض وغرب الأبيض، عفوًا، لم أقصد التكريس لهذه الحالة. ويضيف لكن حدث فرز في كثير من الحركات المسلحة سابقًا كانت لديها مشاكل إثنية مع قوات الدعم السريع، إشكالات متعلقة بالثارات قديمة أصبحوا مؤيدين للدعم السريع باعتبار الجانب الجهوي، أنه هؤلاء مننا من دارفور نتخلص من المشكلات التي نواجهها حاليًا لنعود ونتفرغ لهم ونتجه نحوهم لنتخلص منهم وبعدها نحل قضايانا فيما بيننا.

بلد لديه تراكم:
يحذر د. الأبوابي من الانسياق خلف هذه الأساليب ويقول: نحن في بلد لديه تراكم وتجربة ثقافية وسياسية متقدمة إلى درجة كبيرة رغم تناقضاتها ومشاكلها لكن من الممكن أن نفقده في لحظة واحدة، يعني الأحزاب التي تضم في عضويتها أشخاص من الشرق والغرب والشمال، ومدارسنا الفكرية التي تجمع من كل حدب وصوب التي فيها أشكال الانتماءات المختلفة العرقية والجهوية والثقافية كلها موجودة في مؤسسات المجتمع المدني سواء أحزاب وغيرها، هذا مهدد بالنسف وينتهي في لحظة عندما نتحول للحديث الجهوي “لقبيلتي وقبيلتك وجهتي وجهتك” وهذا مؤكد في حد ذاته واحدة من الاثار السلبية للحرب.

الآثار النفسية باقية:
بالعودة لدكتور ياسر موسى استشاري الصحة النفسية للحديث حول الآثار النفسية للحرب وتداعياتها المستمرة حتى بعد توقفها يقول الدكتور في حديثه لـ”راديو دبنقا”: تعتبر آثار الحرب أيًا كانت اقتصادية، سياسية وإلى حدما اجتماعية، هي من الآثار التي يمكن معالجتها بسرعة وعودة الحياة بشكل طبيعي، إلا الآثار النفسية للحرب فهي الأكثر خطورة والأطول استمرارًا تذهب عميقًا في النفس وتخلف جروحًا كبيرة وعظيمة يطول زمن معالجتها هكذا الحروب تخلف آثار نفسية قاسية.
وقد لا يعيرها الناس اهتمامًا وهم يحللون مالات الحرب ويضعون خططهم الاستراتيجية لها، لذلك تكون الحرب أكثر دمارًا وقسوة علي أي شعب نزلت عليه، لأن الآثار النفسية تنخر بعيدًا في حياة الشعوب وحياة الأفراد.
السودان حالة خاصة جدًا، جاءت الحرب بعد ثورة عظيمة نادت بالسلمية والحرية والسلام والعدالة وكل هذه قيم عالية وغالية لأن المواطن السوداني افتقدها لعهود طويلة، ويرى أن ثورة ديسمبر 2018 جاءت نهاية لعهد ثلاثين سنة لحكم إسلاموي بغيض عنيف قام بإذلال الشخصية السودانية ولكسر إرادتها وسد شهيتها للحياة، مارس كل أشكال العنف والتعذيب الدموي والوحشية في كل شيء حول المواطن.

عنف الدولة:
يعتقد د. ياسر في مواصلة لحديثة لـ”راديو دبنقا” أن ثورة ديسمبر جاءت لإنهاء هذا العهد وهتاف “سلمية سلمية ضد الحرامية” هذا هو الشعار الذي كان السبب لأبشع أشكال العنف، الذي يمكن أن تمارسه دولة ضد شعبها أو قوات عسكرية ضد شبابها وأفراد شعبها في اعتصام القيادة، الذي تم فضه بأبشع الجرائم الإنسانية من عنف وإذلال وجلد واغتصاب وحتى إغراق الشباب بربطهم بحجارة مثقلة ورميهم في النيل، هل يمكن لهذه الذاكرة أن تنمحي دون أي معالجة أو إعادة تأهيل نفسي…؟
ويقول: ثم تأتي الحرب التي اقتتل العسكر فيما بينهم، بذات العقلية الوحشية والقهر والتسلط في حرب لا ناقة ولا جمل للمواطن السوداني فيها. وأضاف “بدأنا نرى ونصدم بكثير جدًا من أشكال العنف والدمار وأصوات القنابل والصواريخ والدانات والمفرقعات من القتل والجثث في كل مكان وما أكثر الآثار التي تخلفها القسوة.
الأطفال أكثر الضحايا:
قبل الخوض في تحليل الآثار، ويشرح استشاري الصحة النفسية د.ياسر موسى بالقول: أود أن أوضح أمر مهم أن الآثار النفسية هي الأكثر خطورة واستمرارًا ولا ترحم أفراد المجتمع بكل فئاته، فهي عميقة قوية جدًا على الأطفال والنساء وعميقة وقوية بالنسبة لكبار السن وقد تذهب الروح لكبار السن، وعميقة للشباب وفي كل فئة يكون الأثر أشد حدة وقوة لكن كل هذه الآثار تبدأ بداية بالشعور بالقهر والعزلة والاغتراب النفسي والصدمة النفسية.
ويعتقد أن في الصدمة لدينا شيء بخلاف الصدمة نفسها أمر يتعلق بآثار ما بعد الصدمة وهي مجموعة من الاضطرابات النفسية الحادة جدا والتي تصاحب الفرد كان طفلاً أو شابًا أو امرأة أو كبيرًا في السن، وهذه تحتاج لعمل نفسي مختص للمعالجة منها، تحتاج للدعم النفسي والاجتماعي لكي نعود منها.
ويقول بشيء من التفصيل. لكن الآثار عميقة جدًا نجدها عند الأطفال تظهر في اضطرابات النوم في القلق وفي التبول اللاإرادي، في الصراخ في البكاء في اضطرابات الأكل بفقدان الشهية في اضرابات التفكير والإدراك والذاكرة والشخصية وضعفها، في الاهتزاز وحالات الخوف المرضي الحاد بالنسبة للأطفال، هذه للأسف ممكن تتسبب في اضطرابات تعيق التعليم والتعلم، وتدع الطفل فاقدا للرغبة في الحياة وفي التعلم وضعيف الدافعية لها.
ويشير إلى أنه من أكثر ملاحظة في حربنا في السودان أكثر ضحايا الحرب هم الأطفال، ليس لتوقف التعليم فحسب بل بالموت، وبفقدان والديهم أو أحد الأقارب الأعزاء، والمعاناة من الإصابات بالدانات والمفرقعات.
وينبه استشاري الصحة النفسية الذي كان يتحدث لـ”راديو دبنقا”، إلى أن الآثار الأشد صعوبة هي معاناة تكرار الذكريات المرتبطة بالألم ويقول إنَّ هذه من الآثار التي نسميها آثار ما بعد الصدمة، وهذه تكون قاسية جداً على الأطفال ويسبب الإعياء النفسي والإجهاد الانفعالي واضطراب المشاعر وضعف القدرة على التعبير.
ويشير استشاري الصحة النفسية د.ياسر موسى إلى أن هنالك آثار لا نعيها ولا ندركها ولان ضعها في حساباتنا ونحن نحلل في آثار الحرب و نتكلم عن أشكال التحليل الاستراتيجي للحرب، ونتكلم عن مالات الوطن في المستقبل لا ننظر لهذه الآثار إن وجدت لن يوجد وطن على الإطلاق، وإن وجدت سنكون مجموعة من الأفراد في شكل غابة مفككين لا رابط بيننا، تسودنا القسوة والعنف المستمر.
ما أقسى هذه التجربة و الحرب وهي عبثية لا تبقي ولا تذر للأسف ومصنع كبير للوحشية والعنف. واحدة من المشاهد اليومية للحرب هي مناظر للجثث مقطعة التي اصبح حتى مواراتها التراب بعيد المنال بحيث لم يعد للجسد الإنساني حرمة حيا او ميتا.