جلد المعارضين !!

أصدر قاضي جنايات كررى بامدرمان حكماً بالجلد 20 جلدة لكل من المعارضين/ مستور أحمد محمد الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني، وعاصم عمر وابراهيم محمد زين، أعضاء الحزب بعد إدانتهم بمخالفة المادة 69 من القانون الجنائي لقيامهم بإلقاء خطابات في مخاطبة جماهيرية أقامها حزب الموتمر السوداني في إحدى أسواق العاصمة منددين بالإعتقالات التى طالت سياسيين ومطالبين باطلاق سراحهم، وداعين لمقاطعة الانتخابات. هذا الحكم والأمر بتنفيذه فوراً يعيد إلى الذهن مقولة إدوارد جيبون إذ لا شك أن الحكم يسبب إزعاجاً عاماً أكثر من الفعل الذي قام به المتهمون.

 

 

بقلم : نبيل اديب المحامي

 

 

(عندما تسبب العقوبة هلعاً أكثر من الجريمة فإن النص القانوني يجب أن يفسح الطريق لصالح الشعور الإنساني العام).

 

إدوارد جيبون

 

أصدر قاضي جنايات كررى بامدرمان حكماً بالجلد 20 جلدة لكل من المعارضين/ مستور أحمد محمد الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني، وعاصم عمر وابراهيم محمد زين، أعضاء الحزب بعد إدانتهم بمخالفة المادة 69 من القانون الجنائي لقيامهم بإلقاء خطابات في مخاطبة جماهيرية أقامها حزب الموتمر السوداني في إحدى أسواق العاصمة منددين بالإعتقالات التى طالت سياسيين ومطالبين باطلاق سراحهم، وداعين لمقاطعة الانتخابات. هذا الحكم والأمر بتنفيذه فوراً يعيد إلى الذهن مقولة إدوارد جيبون إذ لا شك أن الحكم يسبب إزعاجاً عاماً أكثر من الفعل الذي قام به المتهمون.

 

الجريمة والدستور

 

تنص المادة 69 على مايلي :- (من يخل بالسلام العام أو يقوم بفعل يقصد به أو يحتمل أن يؤدي الى الإخلال بالسلام العام او بالطمأنينة العامة ، وكان ذلك فى مكان عام ، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز شهراً أو بالغرامة أو بالجلد بما لا يجاوز عشرين جلدة.)

لا بد للتنبيه أولاً أن هذه الجريمة مختلفة عن جريمة الإزعاج العام المعروفة في القوانين المختلفة وتلك جريمة حدودها معروفة، في حين أن جريمة الإخلال بالسلام العام تتميز بالغموض و وخلوها من أى معنى محدد. الإخلال بالسلام العام في الشريعة العامة The Common Law هوعنصر تتضمنه أى جريمة، ولكنه ليس جريمة قائمة بذاتها. لذلك فإن فقهاء القانون الإنجليزي مجمعين على أن جميع الجرائم تتضمن عنصر الإخلال بسلام الملكة a breach of queen’s peace وفقاً لذلك، فإنه عند صياغة التهمة، حسب قانون لائحة الإتهام لعام 1915م Indictments Act يشمل الاتهام جملة أن المتهم قد إرتكب فعلا ضد سلام سيدتنا الملكة وتاجها وكرامتها against the peace of our lady the queen , her crown and dignity. ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل الإتهام الموجه للمتهم. وهذا هو السبب في أن مكتب المدعى العام، بإعتباره ممثلاً للملكة، هو الذي يتولى الإتهام في جميع الدعاوى الجنائية. أما إعتبار الإخلال بالسلام العام، دون تحديد اى فعل كجريمة معاقب عليها، فهذأ غموض مخالف للدستور. تقول المحكمة العليا الأمريكية يكون القانون غامضاً، عندما يجعل الأشخاص ذوى الذكاء العادى يخمنون المعنى المقصود، ويختلفون حوله، (الولايات المتحدة ضد ونش). والقانون الغامص يخالف الدستور من أوجه ثلاث :الأول أنه يؤدى إلى معاقبة الناس على أفعال لم يكن في وسعهم معرفة عدم مشروعيتها وقت إرتكاب الععل المعلقب عليه، والثاني أنه يؤدى إلى تسلل المعايير غير الموضوعية لتطبيق القانون، وهذه المعايير من شأنها أن تقود إلى تطبيق تحكمي وتمييزي بواسطة منفذي القانون، والثالث أنه يؤدى إلى أن يمنع المواطن نفسه من ممارسة حرياته الأساسية بسبب الأثر الذي يحدثه غموض القانون لدى المواطن والمعروف فى فقه القانون الأمريكى بال CHILLING EFFECT والذي يؤدي لإمتناع الشخص عن ممارسة حرياته الأساسية خوفاً من أن يكون في ذلك خرقاً لقانون لا يعرف المواطن النشاط الذى يمنعه ذلك القانون على وجه التحديد.

 

الأفعال المنسوبة للمتهمين

 

ورغم أنه يستحيل أن نستطيع أن نعرف بالضبط ما هو المقصود بالإخلال بالسلام العام، إلا اننا نعرف أن الفعل المنسوب للمتهمين ليس به أى إخلال بالسلام العام، لأن الإخلال بالسلام العام لا يمكنه أن يتضمن ممارسة حق دستوري، وإذا صح أن المتهمين قد إرتكبوا الأفعال المنسوبة لهم، وهي أنهم نددوا بالإعتقالات التى طالت سياسيين وطالبوا باطلاق سراحهم فإنهم يكونوا قد مارسوا حقهم الدستوري في الإحتجاج، وبالتالي فإنهم لا يكونوا قد إرتكبوا إخلالاً بالسلام العام. بالنسبة لمقاطعة الإنتخابات فهذا حق مشروع للمواطن. إذا توصل مواطن لأن الإنتخابات بالشكل الذي تجرى به لاتوفر المتطلبات الدستورية للإنتخابات فإن واجبه هو أن يقاطع تلك الإنتخابات، وأن يدعو غيره لمقاطعتها، لأن في فعله هذا ليس فقط ممارسة لحقه الدستوري بل هو أيضاً في واقع الأمر دفاعاً عن الدستور وفقاً لقناعاته. ولا يهم بعد ذلك أن يكون ما يستند عليه من وقائع صحيحاً أم غير صحيح، والمهم هنا هو حق المواطن في التعبير عن قناعاته ودعوة الآخرين لتبنيها. وقد أكد الرئيس في خطابه الذي ألقاه بمناسبة فوزه في الإنتخابات أن الذين قاطعوا الإنتخابات مارسوا حقهم الدستوري “لأن السودان بلد حر وناسه أحرار والذي يشارك يشارك، والذي لا يريد أن يشارك هذا حقه ونحن نحترم رأيه ونحترم موقفه” إذاً فليس هنالك مأيخالف القانون ويستدعي العقاب فيما قام به المتهمون.

 

العقوبة والدستور

 

عقوبة الجلد عقوبة مهينة ولذلك فهي مخالفة للدستور ولإلتزامات السودان الدولية. تنص المادة 33 من الدستور على ما يلي ” لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب أو معاملته على نحوٍ قاسٍ أو لا إنساني أو مُهين” وتنص المادة 27(3) على أن “تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءً لا يتجزأ من هذه الوثيقة.” المادة الخامسة من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب تنص على.” لكل فرد الحق فى احترام كرامته والاعتراف بشخصيته القانونية وحظر كافة أشكال استغلاله وامتهانه واستعباده خاصة الاسترقاق والتعذيب بكافة أنواعه والعقوبات والمعاملة الوحشية أو اللاإنسانية أو المذلة” وتنص المادة السابعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة. وعلى وجه الخصوص، لا يجوز إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أحد دون رضاه الحر.” تطبيقاً للمادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية،والتي تنص على أنه “لا يجوز إخضاع أي إنسان للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة المهينة للكرامة” وهي تشابه المواد السابق الإشارة لها، قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في Tyrer v. United Kingdom 213 UNTS 221أن:

“أساس طبيعة العقوبة البدنية القضائية هي أنها تنطوي على أن يقوم إنسان بإيقاع عنف جسدي على إنسان آخر، وهو في هذه الدعوى عنف مؤسسي يسمح به القانون، ويقع بأمر من السلطات القضائية، و تقوم به سلطات الشرطة في الدولة. و على الرغم من أن مقدم الطلب لم يعاني من ألم شديد أو من أثر جسماني طويل الأمد، إلا أن العقوبة التي وقعت عليه من حيث أنها تتعامل مع مقدم الطلب كمجرد شئ في قبضة السلطات، تشكل اعتداءً على أحد الأهداف الرئيسية للمادة 3، وهو على وجه التحديد حماية كرامة الإنسان وسلامته الجسدية. كما ولا يمكن استبعاد ما يمكن أن يكون لهذه العقوبة من آثار نفسية سلبية”

 

العقوبة وإلتزامات السودان الدولية

 

في الشكوي رقم 236/2000 فحصت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان عقوبة الجلد في القوانين السودانية في شكوى لخصت اللجنة وقائعها كالتالي: حسب إدعاء الشاكي أنه في 13 يونيو 1999، قامت جمعية النوبة في الجامعة الأهلية بتنظيم رحلة على ضفاف النهر في منطقة بري بالخرطوم. وأنه على الرغم من أن الحصول على إذن ليس ضروريا للرحلات وفقاً للقانون، فقد سعت الجمعية وحصلت على إذن من السلطات المحلية لهذه الرحلة . داهمت شرطة النظام العام الطلاب أثناء الرحلة، وإعتقلت ثمانية منهم بشبهة مخالفة المادة 152 من القانون الجنائي لسنة 1991 بالنسبة لما كان يرتديه بعض الطالبات من ثياب، ولبعض التصرفات التي إعتبرت فاضحة كالرقص المختلط. في 14 يونيو 1999، أدين الطلاب الثمانية، وحكم عليهم بالغرامة والجلد. وقد تم تنفيذ العقوبة بإشراف المحكمة، وأن هذا النوع من العقاب يتم توقيعه على نطاق واسع في السودان.

لم تنازع الدولة المشكو ضدها في صحة الوقائع بل أكدتها في الملاحظات الشفوية بالقول بأنه من رأي الدولة المشكو ضدها أنه من الأفضل للضحايا أن يجلدوا بدلا من سجنهم لأن ذلك كان سيؤدي لحرمانهم من فرصة مواصلة حياتهم الطبيعية.

ذكرت اللجنة أنه ليس هناك حق للأفراد، وبصفة خاصة للحكومة في أن تمارس عنفاً بدنياً ضد الأفراد بسبب إرتكابهم لجرائم، وإن قبول اللجنة لهذه الممارسة سيعني قبول الميثاق للتعذيب برعاية الدولة وذلك يخالف الأساس الذي قامت عليه المعاهدة التي أنشأت الميثاق من حيث كونها معاهدة معنية بصيانة حقوق الإنسان.

ولاحظت اللحنة أنه قد تم تطبيق القانون موضوع الشكوى على أشخاص آخرين، وهو وضع إستمر رغم إدراك الحكومة للتعارض الواضح مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.

لهذه الأسباب، فإن اللجنة الأفريقية تقرر أن جمهورية السودان قد إنتهكت المادة 5 من الميثاق الأفريقي، وتطلب من حكومة السودان أن تعدل على الفور القانون الجنائي لعام 1991، وفقا لالتزاماتها بموجب الميثاق الأفريقي وغيرها من الصكوك الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان؛ وذلك بإلغاء عقوبة الجلد ،واتخاذ التدابير المناسبة لضمان تعويض الضحايا.

 

العقوبة والشريعة

 

كثيراً ما يتذرع المؤيدون للإبقاء على عقوبة الجلد بالشريعة الإسلامية، ولكن الواقع يقول أن صلة عقوبة الجلد بالشريعة الإسلامية تقتصر على الحدود الشرعية الثلاث التي يعاقب على إرتكابها بالجلد، في حين أن ً القانون الجنائي يعاقب على أكثر من ثلاثين جريمة بالجلد. أضف لذلك، الكم الهائل من القوانين الولائية والأوامر المحلية التي تعاقب بالجلد على أعمال مختلفة. فصاحب المنزل الذي يقيم حفلاً غنائياً في منزله، ولا يمنع النساء من الرقص المختلط مع الرجال، أو أمام الرجال، ومن يغسل عربته في غير الأماكن المخصصة لذلك، والرجل الذي يدخل البص من الباب المخصص للنساء، والرجل الذي يدخن الشيشة في مكان عام في بعض المحليات، والمرأة التي تدخن الشيشة في مكان عام في محليات أخرى، ومقدم الخدمة أو بائع السلعة الذي يسمح بإصطفاف الرجال مع النساء في صف واحد، كل هؤلاء تعاقبهم قوانين ولائية أو أوامر محلية بالجلد. الثابت وفقاً لذلك كله هو أن عقوبة الجلد بسبب كونها عقوبة مهينة ومذلة فقد منعت المواثيق الدولية تطبيقها كعقوبة، وأنه إذا جاز تطبيقها في العقوبات الحدية الشرعية بسبب أنه لاخيار للمشرع في ذلك، فإنه لا يجوز تطبيقها كعقوبة في الجرائم التعزيرية لأن السلطة التشريعية مقيدة بإلتزاماتها الدستورية، وإلتزامات السودان الدولية التي تمنع ذلك.