سيف الدولة حمدنالله: مصير قضاة الطوارئ !! ..

حسناً أن إنتبه الشارع إلى إعتلال القضاء بحيث إختار الشعب أن يكون تسيير الموكب القادم (الثلاثاء 5/3/2019) حصرياً للمطالبة بإستقلال القضاء، فقد ظلّ كثير …

سيف الدولة حمدالله(ارشيف)

بقلم: سيف الدولة حمدنالله

 

حسناً أن إنتبه الشارع إلى إعتلال القضاء بحيث إختار الشعب أن يكون تسيير الموكب القادم (الثلاثاء 5/3/2019) حصرياً للمطالبة بإستقلال القضاء، فقد ظلّ كثير من الناس ينظرون إلى مبدأ إستقلال القضاء بإعتباره حديث نُخب و "مُثقفاتية" يتداوله أهل المهنة والسياسيين، مثله مثل الحديث الذي يُردّده أهل الدراما في بيان أهمية مهنتهم بالعبارة التي تقول: "أعطني مسرحاً أعطيك أمة"، والذي ساهم في تأخير التفاعل الشعبي مع مطلب إستقلال القضاء، أن المواطن العادي عادة لا يستشعِر أهمية هذا المبدأ، إلاّ إذا كابد الظلم الذي ينتج عن غيابه في نفسه أو في شخص يهمه أمره.

الذي لفت الأنظار لموضوع إستقلال القضاء بهذا الشكل، هو أن الشعب في مجموعه قد وجد نفسه وجهاً لوجه في هذه الأيام أمام قضاء لا يختلف في إستخدام أداة القانون في بطش الشعب عن عساكر الإحتياطي المركزي، وقد وضع نفسه تحت إشارة الجهاز التنفيذي وقام بتنفيذ طلبات السلطة بإنشاء محاكم الطوارئ التي قامت بالتنكيل بالمُتظاهرين الشباب من الجنسين بتوقيع عقوبات وصل مداها للسجن لسنوات مع الغرامات الفادِحة لمجرد أن المواطن قد رفع ساعده إلى أعلى وطالب بحقه الدستوري في الحرية والعدالة.

الذي جعل قضاة محاكم الطوارئ (بينهم من شُهِد له بالإعتدال) بهذا الإندفاع ويشتطُّون في توقيع عقوبات غليظة على المُتظاهرين، الذي جعل القضاة يجنحون إلى ذلك لم يكن – فقط – لكون كثير منهم ينتمون للتنظيم الحاكِم أو يؤمنون بفكره (إن كان له فكر)، وإنما يرجع ذلك إلى إنقطاع حلقة تواصل الأجيال وتوارُث التقاليد المهنية التي كان القضاة يتشرّبون من خلالها مفهوم إستقلال القضاء والأستعداد للتضحية في سبيله، فالقاضي الذي جرى تعيينه في عهد الإنقاذ وكان يدرس في المرحلة الثانوية أو الجامعية عند إستيلائها على الحكم، بلغ اليوم في درجته مرحلة محكمة الإستئناف بعد مرور أكثر من ربع قرن على تعيينه، ووجد القضاة أمامهم قدوتهم في مناصب كبار القضاة وتتلمذوا على أيديهم غرباء عن المهنة من أنصاره الذين يفتقرون لهذه المفاهيم من الذين إستجلبهم النظام من سوق المحاماة أو من بين عضويته المغتربين بالسعودية ودول الخليج، ولم يجد القضاة الصغار أمامهم من يستلهِموا منهم هذه المعاني ويتشرّبوا هذه المبادئ والتقاليد، بعد أن قامت الإنقاذ وفي بحر شهور من إستيلائها على السلطة بإحالة معظم القضاة العاملين آنئذٍ للصالح العام في كشوفات مُتلاحقة حتى لم يبق من الجيل السابق إلاّ عدد قليل إستطاع النظام ترويض بعضهم كما وألّف قلوب آخرين منهم.

لا يستطيع المرء أن يفهم الأساس الذي بنى عليه بعض قضاة الطوارئ الحكم الذي أنزلوه بالسجن لسنوات (تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات) على عدد من المتظاهرين، وهي عقوبة (السجن لمثل هذه المدة) تُنزل على معتاد الإجرام في القضايا الجنائية، فيما يحكم قاضٍ آخر بعقوبة السجن مدة ثلاثة أشهر على آخرين بموجب نفس التهمة؟ ومن أين جاء القضاة بتوقيع عقوبة إضافية بالغرامة 10 مليون جنيه في الوقت الذي لم ترد عقوبة الغرامة في أمر الطوارئ الذي يتم تطبيقه في هذه القضايا؟

فيما عدا القاضي حيدر دفع الله، كل الذين تعاقبوا على رئاسة القضاء في عهد الإنقاذ كانوا من أبناء التنظيم الحاكم، فقد تعاقب على هذا المقعدبالترتيب – كلٍ من جلال علي لطفي، حافظ الشيخ الزاكي، عبيد حاج علي، جلال محمد عثمان، محمد حمد أبوسن، حيدر دفع الله ثم أخيراً عبدالمجيد إدريس، وقد تبارى هؤلاء – بدرجة مُتفاوِتة – في إظهار ولاء القضاء وإستسلامه لإرادة الجهاز التنفيذي للدولة، ويرجع لجلال محمد عثمان السهم الأكبر من المسئولية في تلاشي مبدأ إستقلال القضاء، فقد كان هو الرئيس الفعلي للقضاء في عهد الذين سبقوه، كما إستطاع جلال أن يغرس دولته العميقة من خلال كثير من القضاة الذين لا يزالون يُدينون له بالولاء والتبعية، وقد جاء عبدالمجيد إدريس ليقضي على ما تبقى من أطلال بإعتباره كادر تصادمي من أبناء التنظيم.
من الجيِّد في هذا الوقت بالذات أن يقفز موضوع إستقلال القضاء إلى السطح ويُدرك الجميع أهميته، حتى يحظى موضوع إعادة بناء السلطة القضائية بالإهتمام الذي يستحقه عند حدوث التغيير، فالقضاء هرم يتم بناؤه بالمقلوب من أعلى إلى أسفل، ولا يمكن إصلاحه بالترقيع، ، ويلزم لإعادة بنائه تشكيل محكمة عليا من قضاة لديهم المقدرة على المساهمة في صناعة القانون وإرساء المبادئ والسوابق القضائية التي تسير عليها بقية المحاكم، وأن يكون لدى قاضي المحكمة العليا الإستعداد للمبادرة والتصدي من نفسه إلى ضبط الأحكام ليتحقق لها التناسُق – كما كان في السابق – بحيث يحصل المحكوم في القضايا المتشابهة بعقوبة مماثلة ولا يتوقف مصيره على ما يمتلئ به قلب القاضي من غِلظة أو حِنيّة.

سوف يتلبّس العار قضاة الطوارئ الذي خالفوا ضمائرهم في تطبيق العدالة، وسوف تُلاحقهم هذه السيرة وتلحق بأبنائهم وأحفادهم من بعدهم كلما ذُكِر إسمهم على لسان، بنفس القدر الذي حفظ فيه التاريخ أسماء قضاة آخرين، كان لهم موقف شجاع حينما كان هناك قضاء مُستقل، من بينهم القاضي حسين فقيري الذي رفض إتباع الإجراءات المبتسرة التي يفرضها قانون الطوارئ على عهد النميري في 1983، مما إضطر النميري إلى إصدار قرار آخر بعزله من المحكمة بعد مرور ثلاثة أيام على تعيينه، ومن ذلك أيضاً (والحديث عن إستقلال القضاء) ما فعله القاضي الصادق شامي الذي لا يعرف كثيرون موقفه الشجاع في الدفاع عن إستقلال القضاء وسيادة حكم القانون الذي إنتهى به لتقديم إستقالته والإشتغال بالمحاماة حتى تاريخ وفاته.

وموقف الصادق شامي، يستحق أن يُروى هنا مرة أخرى (وقد سبق الإشارة له في مقال سابق)، ومُلخّصه أن الرئيس جعفر نميري كان قد ذهب مُتخفيّاً إلى "زنك" الخضار بالخرطوم للتأكد من إلتزام الباعة بالتسعيرة الجبرية التي كانت تفرضها السلطات المحلية، وهناك عرض عدد من الباعة خضروات وفواكه للرئيس بما يزيد عن التسعيرة دون أن يعرفوا هويته، ففوجئوا بالمشتري وهو يأمر حرسه بإقتيادهم إلى قسم الشرطة وفتح بلاغات في مواجهتهم.

عند المحاكمة، إتضح للقاضي الصادق شامي أن محافظ الخرطوم كان قد أغفل نشر الأمر المحلي الذي كان يصدر إسبوعياً بتحديد أسعار الخضروات والفاكهة، فحكم القاضي ببراءة المتهمين على أساس عدم وجود تسعيرة نافِذة، ونبّه القاضي المتهمين إلى حقهم في مقاضاة رئيس الجمهورية للمطالبة بالتعويض عن الخسائر التي نجمت عن تلف بضاعتهم وكذلك عن حبسهم دون سبب مشروع، وحينما بلغ علم الرئيس نميري بما حدث، وصف القاضي الصادق شامي بأنه رجل شجاع وقال أن الذي يمتلك مثل هذه القوة في الوقوف أمام رئيس الجمهورية يستحق أن يتولّى وظيفة المدعي العام، وقد كان، فقد أصدر النميري مرسوماً بتعيين الصادق مدعياً عاماً بالنائب العام وقد إستمر في ذلك المنصب حتى تاريخ إستقالته إحتجاجاً على قرار النميري بتقديم غير العسكريين من قادة الجبهة الوطنية للمحاكمة أمام محكمة عسكرية في الأحداث التي عُرفِت بالغزو الليبي، وقد كان من بينهم الأستاذ علي محمود حسنين ورجلي الأعمال محمد الأمين حامد وعبدالحميد صالح وآخرين.

نحيي القضاة الشرفاء الذين يأتمرون لما يمليه عليهم ضمير العدالة، والعار لقضاة الطوارئ الذين يستخدمون ميزان العدل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وهؤلاء مصيرهم إلى مذبلة التاريخ، والحرية لكل المحكومين والمعتقلين من الثوار.