د. الشفيع خضر سعيد: شكوك حول نجاح ما يُحاك! ..

معظم السودانيين، وكذلك بعض أطراف الحركة السياسية السودانية، يتشككون في إمكانية نجاح العملية التي انطلقت، أو تحاك، برعاية المجتمع الدولي…

د. الشفيع خضر(ارشيف)

بقلم: د. الشفيع خضر سعيد

 

معظم السودانيين، وكذلك بعض أطراف الحركة السياسية السودانية، يتشككون في إمكانية نجاح العملية التي انطلقت، أو تحاك، برعاية المجتمع الدولي، لجمع الحكومة ومكونات تحالف نداء السودان المعارض، الحركات المسلحة والأحزاب السياسية، في منابر التفاوض المقترحة، والمتوقع إلتئامها في الأسابيع المقبلة. ونحن أيضا تساورنا ذات الشكوك، ونرى أن لها حيثياتها وأسسها التي تجعلها شكوكا منطقية وموضوعية ومقبولة، ولا تصدر عن توجسات متوهمة. ومن ضمن هذه الحيثيات والأسس:
أولا، تجارب المفاوضات السابقة بين الحكومة والمعارضة، والتي تمت برعاية المجتمع الدولي، غير مشجعة، إذ لم تكن ناجحة من حيث إزالة مسببات الحرب وإرساء ما يمنع تجددها، وفكفكة نظام تحالف الاستبداد والفساد لصالح دولة السلام المستدام والديمقراطية التعددية، وإرساء أسس الإصلاح الاقتصادي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن البسيط، والإستجابة لمطالب وتطلعات أهلنا في الأطراف والهامش ومناطق التوتر العرقي والقومي. صحيح أن إتفاق السلام الشامل أوقف الحرب في جنوب السودان، ولكن مقابل ثمن باهظ هو إنفصال الجنوب وإندلاع حرب أهلية فيه أزهقت أرواحا تقول بعض التقارير أنها فاقت ما أزهقته الحرب في سوريا، كما شرّدت الملايين من ديارهم، وأصابت ملايين الأطفال بالمجاعة حد الموت، في هذه الدولة الفتية الغنية بمواردها الطبيعية. وصحيح أن بعض المفاوضات السابقة إنتهت بإتفاق موقع من الأطراف المتفاوضة، وبشهادة وضمانة المجتمع الدولي والإقليمي. لكن، كل هذه الإتفاقات إنتهت بشراكة في السلطة وإقتسام كراسي الحكم، وتقريبا توقفت عند هذا الحد، دون أن تستثمر في التصدي لجذور الأزمة، لأن ذلك لم يكن في إستطاعتها، فهي شراكة غير متكافئة، ويسيطر عليها الطرف الذي تسبب في الأزمة، فارضا سياساته وممارساته. ومن هنا كانت قناعة الجميع بأن لا خير في إتفاق سقفه الأعلى هو المشاركة في كراسي السلطة. وهكذا، ورغم الإتفاقيات الموقع عليها بين الحكومة والمعارضة في تجارب المفاوضات السابقة، إلا أن خناق الأزمة يشتد ويضيق على رقاب الشعب السوداني، مع كل صباح جديد، حتى وصلت الأزمة اليوم حدا لا يطاق.

لا خير في اتفاق سقفه الأعلى هو المشاركة في كراسي السلطة. وهكذا، ورغم الاتفاقيات الموقع عليها بين الحكومة والمعارضة في تجارب المفاوضات السابقة، إلا أن خناق الأزمة يشتد ويضيق على رقاب الشعب السوداني

ثانيا، من الواضح أن المجتمع الدولي، بشكل مباشر أو عبر الوسطاء من المجتمع الإقليمي، سيستخدم في عمليات التفاوض القادمة، ذات المناهج التي ظل يستخدمها في كل المرات السابقة، في السودان وغير السودان، والتي أثبتت فشلها وعدم قدرتها في علاج الأزمات من جذورها. ومن هذه المناهج التمسك بتعدد المنابر، وبالمنهج الجزئي الإنتقائي عند تناول قضايا الأزمة، والإنطلاق من أفكار مسبقة يغلب عليها الطابع الأكاديمي وقوة المصلحة، والتي لا ترى أن الأزمات في هذه المنطقة أو تلك من مناطق السودان، هي تفرعات وأشكال تجلي لأزمة مركزية رئيسية. لذلك، تأتي الحلول جزئية ومؤقتة وهشة، تخاطب الظاهر لا الجوهر، وتشظيات الأزمة تظل كما هي، محدثة إنفجارات داوية من حين لآخر. وفي المفاوضات المتوقعة، قد ينتهي أحد المنابر باتفاق بينما تفشل المنابر الأخرى، ولكن، في إعتقادي، هذا لن يحقق إختراقا في صالح علاج الأزمة، بل سيزيدها تعقيدا، وخاصة أنه، في الغالب، سيؤدي إلى تفتيت وحدة القوى المعارضة.
ثالثا، محتوى الحلول التي يقدمها المجتمع الدولي في هذه المنابر، هي أيضا مدعاة للشكوك. نحن نعترف بأن المجتمع الدولي قدم خدمات جليلة لإطفاء نيران الحروب وإخماد بؤر التوتر في العديد من مناطق العالم، وحقق أهدافا لصالح أمن وسلام وتقدم البشرية. لكن، كل هذا لا يعني القبول الأعمى بما يطرحه المجتمع الدولي والبصم عليه، مثلما لن يعمينا من رؤية الجانب السلبي لمساهمته في المشهد السياسي في بلداننا. وشخصيا، لا إعتراض لدي على سعي المجتمع الدولي لضمان مصالحه في بلداننا ما دامت هذه المصالح لا تتم على حساب مصالحنا الوطنية. لكن، مساءلة مصالحهم ومصالحنا هذه، ليست بالمعادلة البسيطة والسهلة، وإنما هي توازن صعب يحتاج التعامل معه إلى قيادات وطنية حصيفة تعرف كيف تضع حدا بين اللحم والدم، وكيف تتمترس في الدفاع عن مصالح الوطن، دون أي إنحناءة أمام هجمة اليانكي، مهما كان الثمن.
ومع ذلك، فمرحبا بأي إتفاق يوقف الحرب، ونعد ذلك إنجازا يُحتفى به. فنحن لسنا من دعاة التغيير عبر حرب لا نخوضها، ولا تحرق حشانا مثلما هي تفعل في النهارات والليالي المستعرة لعدة عقود في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. ونحن مع أي إتفاق يؤمّن توصيل المساعات الإنسانية لأهلنا المحاصرين جوعا وفقرا ومرضا وقتلا في هذه المناطق. ومباشرة، وبكل الحزم الممكن، أقول إن عدم الإتفاق على هذه القضية يعتبر جريمة مساعدة لجريمة الإبادة. ونحن نرى، أن وقف الحرب سيدفع بقوى إجتماعية جديدة إلى حلبة العمل السياسي، فتوسعها وتُثريه. أما من يرى غير رؤانا حول وقف الحرب، فأما أن يمتشق سيفه ويخوض حربه، أو يتمعن في كلمات درويش: وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَوأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ، مَنْ يرضَعُون الغمامٍ. وأنتَ تعودُ إلى، بيتكَ، فكِّر بغيركَ، لا تنس شعب الخيامْ. وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ، ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزًا للمنام. وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ، مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام.
والآن، إذا كان ليس في مقدور تحالف نداء السودان مقاومة ضغوط المجتمع الدولي حتى يرفض تعدد منابر ومسارات التفاوض، وأنه سيدخل هذه المسارات مجزّءا وليس كتلة واحدة، فعلى الأقل في مقدوره أن يتوحد حول موقف تفاوضي واحد موحد، يطرحه أي مكوّن من مكوّنات التحالف في المنبر الخاص به. وهذا لا يعني إمتناع هذه المكوّنات عن طرح القضايا الخاصة بمناطقها، أو رفض أي مكتسبات يحققها التفاوض لصالح أهلنا في هذه المناطق، وإنما تمسكها أيضا بأن الحل الجذري والمستدام لقضايا مناطقها يكمن في الحل الشامل للأزمة الوطنية العامة في السودان.

نقلا عن القدس العربي