المنعطف الأكثر خطِورة

إن المرء ليحار، كيف يبقى نظام، كالنظام السوداني الحالي، في سدة الحكم لمدة تقارب الثلاثة عقود، ثم يجد نفسه مضطرًا

.

 

بقلم  د. النور حمد 

 

إن المرء ليحار، كيف يبقى نظام، كالنظام السوداني الحالي، في سدة الحكم لمدة تقارب الثلاثة عقود، ثم يجد نفسه مضطرًا، رغم هذه المدة الطويلة، لممارسة نهج الاعتقالات، ومنع التظاهرات، وخنق الصحافة، ومحاربة منظمات المجتمع المدني، بل وقتل أي مبادرة شعبية تريد أن تتنفس هواء نقيًا، بعيدًا عن جو مؤسساته الحكومية الشمولية الخانق. فالنظام الذي يبقى خائفا من شعبه لثلاثة عقود، يعجز خلالها، عجزًا فاضحا، عن كسب ثقة شعبه، عليه أن يقتلع خيامه بنفسه ويطويها، ثم يرحل. فالحالة المستمرة من الاحتقان، بينه وبين الجمهور، لهي أبلغ دليل على فشله الذريع. ونظام هذه حاله، من العجز المستدام، ومن الفشل، لن يجد أمامه خيارا سوى أن يمارس المزيد من القمع والعسف، ليشتري لنفسه زمنا إضافيا محدودا، قد يطول وقد يقصر، ولكنه سوف ينتهي، لا محالة.

الميزانية الكارثية الجديدة، التي صعقت العباد والبلاد، وجعلت مدلولاتها سعر العملة السودانية ينهار بوتيرة متصاعدة، غير مسبوقة، تؤكد، بوضوح، لا لبس فيه، حتمية حدوث موجة جديدة كاسحة من الغلاء. والمعارضة الشعبية التي تصاعدت نتيجة لميزانية الإبادة الجماعية هذه، أمر طبيعي جدا. لكن، كعادتها، لم تجد الحكومة سوى موادهة هذا الحراك الجماهيري السلمي المتحضر، بموجة جديدة من الاعتقالات، وبضرب المتظاهرين بالخراطيش، وإمطارهم بأسوأ أنواع الغاز. وسقطت، كما جرى مرارا وتكرارا، دعاوى فراغ السجون من المعتقلين السياسيين، ودعاوى أن السودانيين يتمتعون بقدر من الحرية، لا يتمتع به نظراؤهم في بلدان الإقليم.

لقد وضعت هذه الميزانية الجديدة، على كاهل المواطنين، عبئًا جديدا، ضخما، فوق عبئهم القديم. فقد تضاعف سعر رغيف الخبز، وقفزت أسعار كل السلع الضرورية الأخرى إلى مستوى غير مسبوق. وسوف يرتفع كل شيء من إيجار المنازل، إلى تعرفة المواصلات، إلى أسعار الأدوية المنقذة للحياة، إن هي توفرت أصلا. باختصار، الهبوط الحاد والسريع في سعر الجنيه السوداني، يشير، بوضوح شديد، أن الشعب سيواجه، في غده القريب، استحالةٍ عمليةٍ في تدبير معيشته اليومية. وفيما نشاهد، فإن الحكومة عاجزة عن فعل أي شيء. فهي، كعادتها، لا تريد أن تنظر إلى أصل العلل التي صنعتها بنفسها، وظلت تهرب من مواجهتها. وكل ما يصدر منها يقول إنها تسير في مسار الإنكار القديم، مختارةً تحويل الأزمة على الشعب، بمفاقمة الغلاء وزيادة الجبايات والقمع، والمطالبة بالمزيد من الصبر، من غير أن يكون في الأفق ما يبرر التزام الشعب جانب الصبر.

لقد كانت كل التظاهرات التي جرت في الأسبوعين الأخيرين، غاية في التحضر وفي الانضباط. فقد نظمتها قوى المعارضة، وأعلنت عنها، مسبقا، وحددت أمكنتها، ومواقيتها. غير أن السلطات، التي بدأت تحس بأن الأرض قد أخذت تميد من تحت أقدامها، واجهت هذه التظاهرات بعنف، وبضراوة، لا تتناسبان مع ما يجري. ولو فكر أهل النظام بحياد، وبمسؤولية، لعرفوا أن الأرض قد أخذت تميد من تحت أقدامهم، بسبب خطاياهم الفادحة المتراكمة، وبسبب فسادهم الداخلي، وفسادهم الآخر العابر للقارات، وليس بسبب هذه التظاهرات المحدودة. لكن، من أين للخائف أن يفكر بحياد، أو بهدوء.

في ظل إعلان ميزانية كهذه، تهدد الشعب بالموت جوعا، وتحت إصرار المسؤولين المترفين على أن تبقى هذه الميزانية، كما هي، دون تعديل، على النظام أن يترك الشارع يعبر عن نفسه بحرية. فليس من المعقول أن يعد النظام ميزانية للإبادة الجماعية، وينتظر من الناس أن يهزوا رؤوسهم استحسانا، أو يصمتوا. خاصة، أن أهل النظام لم يضربوا للشعب المثل في الزهد والقناعة بالقليل، وفي شد الأحزمة على البطون، مقدمين النموذج والقدوة اللتين تليقان بالقادة الحقيقيين. بل، على العكس من ذلك، فقد ضرب أهل هذا النظام، دون غيرهم من ساسة السودان، أسوأ الأمثلة في الأنانية، والنهم، والجشع، والحرص على تكديس الأرصدة، والعكوف المثابر، صلاةً في محراب عبادة صنم المال. لقد برهنوا، كما لم يبرهن أحد من قبل، على سقوط أخلاقي مريع، وعلى أن أسوأ الحكام، وأفسدهم، وأموتهم ضميرًا، وأرقَّهم دينًا، وأضعفَهم حسًا أخلاقيًا، لأولئك الذين يأتون ليحكموا الناس، زورًا، باسم السماء، وباسم قيمها وتعاليمها العظيمة النبيلة. وأعني هنا، قيم الزهد والنبل، والاهتمام الصادق الحريص على صلاح أمر الناس، وتقديم مصالح الناس على المصالح الخاصة. وهي القيم التي جسدها، في اللحم والدم، كل أنبياء الحقيقة.

لقد قلت، في عديد المرات، إن هذا النظام سوف يسقط تحت وطأة ثقله الذاتي. ويبدو الآن، أكثر من أي وقت مضى، أنه ظهره قد أوشك على أن ينقصم، تحت وطأة هذا الثقل الضخم، الذي تراكم على مدى ثلاثة عقود. فما خرج للناس، من فم رئيس الجمهورية، مؤخرًا، حول البنوك، وحول ضياع عائدات الصادر، وما قاله المسؤولون حول تهريب الذهب عبر مطار الخرطوم، وتهريب السلع عبر الحدود، وما أكدوه من طباعة الأوراق النقدية دون غطاء، يؤكد أن النظام قد بدأ يدرك أن علته الرئيسة، إنما تكمن بين جنبيه. وفي ظني أن هذه ليست سوى قمة جبل الجليد. فالجزء الأكبر من جبل الجليد هذا، لا يزال غير مرئي، فهو مخفي تحت سطح الماء. ولسوف تكشف الأيام القادمة أن أكاذيب النظام على نفسه، التي ظل يصدقها، على مدى ثلاثة عقود، قد وصلت، الآن، حدها الأقصى الذي لن تتجاوزه.

على النظام أن يطلق سراح كل المعتقلين السياسيين، وأن يطلق الحريات العامة، وأن يشرع في حوار حقيقي يهدف إلى تفكيك بنيته المنهارة هذه، سلميا، وبهدوء. وعليه أن ينسى ما أسماه، “الحوار الوطني”، وما أسماه، “وثيقة الحوار الوطني”، وما نتج منها مما سُمِّيت، “حكومة الوفاق الوطني”. فكل تلك أكاذيب بلقاء، يعرفها النظام قبل غيره. لقد كانت حقبة ما بعد الاستقلال في السودان، في مجموعها، حقبة فاشلة. وقد توج الانقاذيون ذلك الفشل التاريخي، بفشل أكبر، وأدهى، أوصلوا به الدولة، عبر بيع أصولها، وسرقة مالها العام، وتحطيم مؤسساتها، وتقاليدها الإدارية في الشفافية والمحاسبية، وتشريد كفاءاتها، وتخريب ضميرها الجمعي، إلى حافة الانهيار.

إن الأزمة الراهنة أزمة بالغة التعقيد. وهي أزمة تنذر بكوارث مدمرة، إن لم يجر التعاطي معها بعقلانية، وبشجاعة. هذه الأزمة التي سوف يزيد استفحالها كل صبح جديد، ويتعاظم خطرها، لم تُناقش كما ينبغي؛ لا من جانب النظام، والقوى المتحالفة معه، ولا من جانب أحزاب المعارضة. ولقد آن الأوان لفتح حوار موضوعي حولها، من أجل البحث عن مخرج آمن، يحفظ للبلاد تماسك دولتها، قبل أن ينفرط عقدها. فخطاب الحكومة، وخطاب قوى المعارضة ظلا يسيران، حتى هذه اللحظة، في مسارين متوازيين تماما، ليس بينهما نقاط التقاء. فالخطابان ضعيفان ومبهمان ومعتلان. علاوة على ذلك، أن كلا الخطابين يراهنان على ما لا يملكان. وآية، ذلك أن الشعب لا يزال يقف حائرا بين الموقفين، فهو ناقم على الحكومة، أشد ما تكون النقمة، ولا يريد، في نفس الوقت، أن يلقي بكل ثقله، في جانب المعارضة.

ما تحتاجه هذه اللحظة الفارقة في التاريخ السياسي السوداني المعاصر، هو الحوار الهادئ المخلص، الموضوعي، العميق، وليس شعارات التعبئة والحشد، التي لا تفيد، حين يجد جد الاصلاح والبناء. على الحكومة أن تكاشف الشعب بحقيقة حجم الأزمة، وبالخطر الشامل الداهم الذي تمثله اللحظة الراهنة.

وأول ما تبدأ به هو منح قنواتها الفضائية المدجنة، الضوء الأخضر لكي تفتح حوارا مفتوحا شفافا، حول تعقيدات هذا المنعطف الراهن، وسبل العبور منه، بعيدا عن نزعة التحكم في الحوارات عبر الإعلاميين المأجورين، واختيار المتحاورين المنحازين للسلطة. وأن تترك الصحف تكتب ما تراه، وأن تكف عن الرقابة والمصادرة. فإما الانفتاح التفاكري الحر، الشفاف، بين سائر القوى المتصارعة، وإما الضرب في تيه مخيف، أسوأ من سابقه. أما أهل المعارضة، وأعني، بخاصة، الذين يظنون أن مجرد ذهاب النظام يعني الخير والبركة، وفي التو، فإنهم لا يعلمون، في حقيقة الأمر، حجم الكوارث التي سترثها المعارضة من النظام. فهو حين يذهب بلا تدابير محكمة مسبقة، فإنه سوف يترك لها أمنا منفلتا، بسبب المليشيات الحكومية وشبه الحكومية، المتعددة، وبسبب المجموعات الكثيرة المعارضة الحاملة للسلاح في الأطراف. كما سيترك لها، أيضا، بلادًا مفلسة تمامًا، فاقدة لأصولها ولمواردها، وغارقة في الديون حتى أذنيها، ومنهارة، بأكثر مما تملك من قدرات على السداد، أو على الإصلاح.