الحوَارُ السُّودَانِيُّ أَو عجَلة التَّاريخ المعطُوبة

على كثرة مشاهد «الحوار الوطني» في السودان، إشارة إلى الدَّعوة التي كان وجَّهها، في نهاية يناير 2014م، رئيس المؤتمر الوطني الحاكم، ورئيس الجُّمهوريَّة، لمعارضيه، أن هلموا إلى كلمة سواء تجمع الشَّمل، إلّا أن ثمَّة مشاهد أساسيَّة تلخِّص مسار هذا «الحوار» ومصيره:

 

 

 

بقلم : كمال الجزولي

 

 

على كثرة مشاهد «الحوار الوطني» في السودان، إشارة إلى الدَّعوة التي كان وجَّهها، في نهاية يناير 2014م، رئيس المؤتمر الوطني الحاكم، ورئيس الجُّمهوريَّة، لمعارضيه، أن هلموا إلى كلمة سواء تجمع الشَّمل، إلّا أن ثمَّة مشاهد أساسيَّة تلخِّص مسار هذا «الحوار» ومصيره:

أوَّلها خطاب الدَّعوة نفسه الذي أجمع على غموض لغته المحيِّرة حتَّى أكثر المتفائلين به، المتحمِّسين له، المعتقدين في أنه ربَّما ينعش الأمل بتدشين حقبة جديدة في علاقات الطرفين، أكثر اتِّساقاً، وأقل شقاقاً.

أما ثاني المشاهد وثالثها فخطابا الرَّئيس نفسه، أوائل مارس/آذار وأواخر أغسطس/آب، واللذان اعتُبرا «انقلاباً»، هبط بسقف الدَّعوة إلى رفض الحريَّات التي طالبت بها المعارضة ضمن «تهيئة الأجواء»، وهاجم الإمام الصَّادق المهدي، زعيم حزب الأمَّة القومي، وتوعَّده بالاعتقال، حال عودته، ما لم يتبرَّأ من «إعلان باريس» الذي وقَّعه مع الحركات المسلحة في أغسطس/آب، مثلما توعَّد الحركات المسلحة نفسها بأنه لن يناقش معها غير ترتيبات وضع سلاحها، وتسريح مقاتليها، معلناً رفضه إجراء أيِّ «حوار» معها أو مع القوى السِّياسيَّة خارج السُّودان، ومع حركات دارفور إلّا في منبر الدَّوحة، ومتمسِّكاً بإجراء الانتخابات في إبريل/نيسان 2015م.

وقد وُصفت تلك اللغة بأنها «غير تصالحيَّة»، وتنمُّ عن «نهج متشدِّد، وتحدٍّ، وتعالٍ، واستصغار للآخر، بما لا يدع مسرباً لمن يملك عزَّة نفس كي يمضي في طريق هذا الحوار، بل وتدقُّ آخر مسمار في نعشه، وتشيِّعه لمثواه الأخير»، أو كما قال ياسر محجوب الحسين (الشرق القطريَّة، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2014م).

وأما المشهد الثالث فيتمثَّل في عودة إبراهيم عمر، القيادي بالمؤتمر الوطني، ورئيس البرلمان، للتَّأكيد، بعد كلِّ هذا، على اعتبار «الحوار خياراً استراتيجياً لا بديل عنه لتحقيق التَّراضي الوطني بين القوى السِّياسيَّة وحملة السِّلاح» (سونا، 21 يوليو/تموز 2015م). وليس صعباً، بطبيعة الحال، أن تلتقط فطنة القارئ «دغمسة» المعنى الذي ذهب إليه إبراهيم عمر من أن المقصود من «الحوار» تحقيق التَّراضي «بين القوى السِّياسيَّة وحملة السِّلاح»! لكن ما يستحقُّ الالتفات، حقَّاً، هو أن الرَّجل خصَّ بالتَّنويه، هنا، الصَّادق المهدي، مؤكِّداً على أهميَّة عودته، ومشاركته في «الحوار» المزمع استئنافه في أكتوبر/تشرين الأول المقبل على الأرجح، لأجل «تحقيق أهدافه» (المصدر). وفي السِّياق التقى رئيس البرلمان، في 21 يوليو/تموز، بالطيب مصطفى، رئيس منبر السَّلام العادل، ورئيس لجنة الاتِّصال بالأحزاب الرَّافضة لـ «الحوار»، وذلك في إطار «تهيئة الأجواء لانطلاقه»! (المصدر).

ثمَّة مسألتان مفتاحيَّتان في التَّقرير أعلاه، هما «تحقيق أهداف الحوار» وتهيئة أجوائه، فالتَّوافق حولهما يفتح الطريق لإنجاح الحوار، بينما التَّنافر يغلقه:

المسألة الأولى، من زاوية المعارضة، الاتِّفاق على إنفاذ عمليَّة انتقاليَّة كاملة تشمل تكوين حكومة انتقاليَّة، توقف الحرب، وتغيث النَّازحين، وتضع برنامجاً اقتصاديَّاً إسعافيَّاً لفكِّ الضائقة المعيشيَّة، وتمهِّد لبرنامج آخر يُعنى، استراتيجيَّاً، بقضايا التَّنمية ومحاربة الفقر، وإلى ذلك تعقد المؤتمر القومي الدُّستوري لوضع الدُّستور الدَّائم، ولإرساء دعائم السَّلام العادل الشَّامل، والتحوُّل الدِّيمقراطي القائم على الحريات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، وتصفية نظام دولة الحزب الواحد لصالح نظام دولة الوطن الديمقراطيَّة التَّعدُّديَّة، وإعادة البناء الوطني على أساس وحدة لا مركزيَّة تراعي التَّعدُّد الإثني والدِّيني والثَّقافي والنَّوعي، وتلتزم التَّنمية المتوازنة، وحكم القِسْط في اقتسام السُّلطة والثروة بين التَّكوينات الإثنيَّة والجِّهويَّة كافَّة، وإنفاذ شكل فعَّال من المساءلة والمحاسبة، سواء القضائيَّة أو المخططة وفق مناهج العدالة الانتقاليَّة، على أن تُنجز كلُّ هذه المهام خلال فترة زمنية متفق عليها، يجري التَّأسيس، خلالها، لشكل ملائم من الوفاق الوطني.

أمَّا المسألة الثَّانية، ففحواها أن للمعارضة مطالب محدَّدة يُتوسَّل بها لبناء الثِّقة التي لا غنى عنها لهذه العمليَّة الشَّاملة. أبرز هذه المطالب وقف إطلاق النار، وأشكال العدائيَّات كافَّة، في كلِّ الولايات، وسحب كلِّ القوَّات العسكريَّة من مواقعها الهجوميَّة على خطوط التَّماس إلى مواقع دفاعيَّة آمنة، ورفع حالة الطوارئ فور الاتِّفاق على وقف إطلاق النَّار والعدائيَّات، وفتح الممرَّات الآمنة إلى معسكرات النازحين، والتزام كلِّ الأطراف بالمساهمة في توفير معينات الإغاثة الإنسانيَّة، وتيسير وصولها، بالتعاون مع المنظمات الدَّوليَّة والإقليميَّة، وإلغاء كلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات، وإطلاق السَّراح الفوري لجميع المعتقلين والأسرى والمحكومين من الطرفين، وإيقاف أيَّة محاكمات سياسيَّة، وإلغاء أيِّ أحكام صادرة ضد النشطاء السِّياسيِّين، بما في ذلك أحكام الإعدام ضد قادة الحركة الشَّعبيَّة، وإطلاق حريَّة النَّشاط الحزبي والسِّياسي السِّلمي، وضمان حريَّة واستقلال العمل الصَّحفي والإعلامي دون أيَّة رقابة قبليَّة أو بعديَّة.

لكن حسبو عبدالرحمن، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس القطاع السِّياسي للحزب الحاكم، رفض، لدى مخاطبته مؤتمر القطاع بولاية الخرطوم، الموافقة على مطلب الحكومة الانتقاليَّة (شبكة الشُّروق، 14 سبتمبر/أيلول 2014م)، ما يعني نسفه، تلقائيَّاً، للمسألة الأولى، جملة وتفصيلاً. كما أعلن النِّظام، أيضاً، رفضه للمسألة الثَّانية تهيئة المناخ، حيث لم يتقدم خطوة باتِّجاهها، ولايزال مصرَّاً على الاستمرار في ذات نهجه القديم، لجهة تشبُّثه بالحلِّ الحربي لمشكلات دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، ولجهة استمراره، أيضاً، في حظر وعرقلة حريَّة النشاط السِّياسي والصَّحفي.

قرأت المعارضة هذا التَّعنُّت، والحقُّ معها، باعتباره دليلاً قاطعاً على أن النظام لم يكن يقصد من وراء مبادرة «الحوار»، أصلاً، سوى كسب الوقت، ريثما يُجري انتخاباته التي يأمل في أن تكسبه شرعيَّة هو في أمسِّ الحاجة إليها، دون أن يضطر لتغيير نهجه. ومن ثمَّ فإن المعارضة، وإن وافقت، مبدئيَّاً، على دعوة «الحوار»، إلّا أنها، بطبيعة الحال، لا ترغب في الإسهام ب «حوار» يعيد إنتاج نفس النظام!

يطرق محجوب محمَّد صالح مسمار أزمة هذا «الحوار» على أمِّ رأسه قائلاً إنها ليست في الوعود، أو النوايا، أو الاتفاقات، أو توقيعها، بل في وجود مفهومين متناقضين لمعنى «الحوار» نفسه: مفهوم الحكومة ومفهوم المعارضة. فهما يسيران في خطين متوازيين لن يلتقيا، ما لم يعدل أحدهما مساره بفعل التغيُّر في ميزان القوى، أو بتوفُّر الإرادة السِّياسيَّة المطلوبة. الحكومة تريد حواراً يُلحق المعارضين بها دون مشاركة في القيادة (!) والمعارضة تريد حواراً يعيد تأسيس الدَّولة على أسس مختلفة. الحكومة تريد إدارة للحوار بغير شروط مسبقة، وبآليَّتها المعنونة «7 +7»، والمعارضة تتمسَّك بشروط «توفير الأجواء» الملائمة، تحت إشراف آليَّة مبيكي، وبمؤتمر تحضيري بمقرِّ الاتِّحاد الإفريقي بأديس أبابا، ووفق قراره رقم/456. أمَّنت المعارضة على ذلك في «برلين مارس/آذار 2015م»، وذهبت إلى أديس، لكن النظام لم يحضر. ف «الحوار»، إذن، «حوار طرشان» بامتياز (العرب، 5 أكتوبر/تشرين الأول 2014م).

مع ذلك كله أعلنت لجنة مختصَّة تتبع لآلية «7+7» عن إعدادها برنامج «لقاءات» مع «جهات» عدَّة «لتهيئة المناخ»! فلئن ختم صالح كلمته المار ذكرها قائلاً: «لم تتراجع قضيَّة الحوار إلى المربَّع الأوَّل، لأنَّها أصلاً لم تغادره»، فيقيننا أن ذلك القول الحقَّ لا يصلح، فقط، لوصف الحالة بعد تسعة أشهر، فحسب، من إطلاق البشير لمبادرته، وإنَّما يصلح، أيضاً، لوصفها الآن، بعد أكثر من عام ونصف العام، فلكأنَّما التَّاريخ عجلة أصابها عطب!

Welcome

Install
×