تقرير حقوقي يكشف جانب من الانتهاكات التي يرتكبها اطراف الحرب
ام تجلس أمام جثة طفلتها هاجر إسحاق عمرها عشر سنوات توفيت نتيجة الجوع والعطش أثناء خروجهم من داخل الفاشر باحثين عن مخرج لارواحهم في الطريق الى منطقة طويلة بشمال دارفور : وسائل التواصل الاجتماعي
:
3 ديسمبر 2025: راديو دبنقا
كمبالا :عبدالمنعم مادبو
داخل غرفة احتجاز مظلمة في أطراف الخرطوم، كان “آدم” معلقاً من قدميه ويداه مكبلتان خلف ظهره. يقول في إفادته: “ظللت معلقاً لفترة طويلة… لم أعد أشعر بجسدي. كانوا يضربونني ويسألونني عن أشياء لا أعرفها. كل ما فعلته أنني كنت ناشطاً في لجان المقاومة” وأضاف “يبدو أن اعتقالي نتيجة مباشرة لنشاطي السياسي، وليس لأسباب قانونية”
وفي غرب دارفور، كانت “مريم” وأربع نساء أخريات يسيرن في طريق النزوح قبل أن يوقفهن مقاتلون من قوات الدعم السريع. تروي “اغتصبونا واحداً تلو الآخر. كانوا يقولون إننا نؤيد الجيش. لم يستطع أحد حمايتنا”. أما “زوجة آدم”، فلم تنسَ تلك الليلة عندما اقتحم ثلاثون جندياً منزلهم: “أخذوه دون أن يقولوا لماذا. ومنذ ذلك اليوم لا نعرف أين هو، وتضيف “سمعنا إشاعات بأنه محتجز في مبنى يتبع للمخابرات يُعرف باسم بيت الأشباح، لكن عندما ذهبنا للسؤال أنكروا معرفتهم بمكانه”
فيما يقول ناجي آخر يدعى موسى “عندما كنا في السيارة، كانوا يأمروننا بإبقاء رؤوسنا للأسفل، ويضربوننا إذا رفعناها. عند الوصول، ضربوني بأدوات حديدية وكابلات كهربائية” وأضاف: كنا نُجبر على تفريغ الشاحنات من الأسمنت والحديد لساعات طويلة، حتى عندما نكون مرهقين. لم يكن هناك طعام كافٍ، وكان المكان مليئاً بالحشرات.
هذه ليست سوى نماذج من سلسلة شهادات وثّقها تقرير جديد أعدّته مجموعة مدافعي حقوق الإنسان في المنفى، ويغطي أكثر من 15 إفادة لضحايا وناجين وذوي مختفين قسرياً داخل السودان وخارجه. التقرير ــ الذي اطلع عليه راديو دبنقا ــ يرسم صورة شديدة القتامة عن حرب تصفها الأمم المتحدة بحرب الفظائع، وعن دائرة انتهاكات لا تعرف خطوطاً حمراء ولا تمييزاً بين رجل وامرأة أو طفل وشيخ. حيث وثق حالات احتجاز اتعسفي وتعذيب واختفاء قسري وعنف جنسي في الفترة ما بين أبريل 2023 وأغسطس 2025م، وذلك بجمع الشهادات عبر مقابلات مع 17 شخصاً، بينهم ناجون وشهود عيان وعائلات مختفين قسرياً، إضافة إلى وثائق وصور وتقارير طبية.
حرب صنعت واقعاً من الخوف
يشير التقرير ــ الذي صدر في 23 صفحة ــ الى انه منذ اندلاع الصراع في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تحولت حياة ملايين السودانيين إلى مأساة مفتوحة: حيث نزح 7.7 مليون شخصاً داخلياً، بينما يعاني 16 مليون من انعدام الغذاء، ودمرت المدن وانهار النظام الصحي، وعنف جنسي واعتقالات وقتل خارج القانون. وبخلاف النزاعات السابقة، اجتاحت الحرب هذه المرة كامل البلاد تقريباً، وتبادل الطرفان السيطرة على الخرطوم وكردفان والجزيرة ودارفور، بينما ظلّ المدنيون هدفاً سهلاً للانتهاكات المختلفة، سواء في نقاط التفتيش أو داخل المنازل أو مراكز الاحتجاز السرية.
الاختفاء القسري يتوسع
يؤكد التقرير أن ممارسات بيوت الأشباح التي اشتهر بها نظام البشير قد عادت بصيغة أشد قسوة. فقد تحدث سبعة رجال عن اعتقالهم دون أوامر قانونية، بعضهم اختفى لأيام وأسابيع. “حامد” لا يعلم أين ذهب والده بعد اعتقاله من ود مدني، يقول “اختطفوه ليلاً. لم يتركوا ورقة أو إشارة. فقط اختفى”. زوجة معتقل آخر تقول إنها سمعت لاحقاً إشاعات عن وجوده في مقر يتبع للمخابرات، لكن الجهات الرسمية أنكرت أي معلومات. أما “موسى”، فتم اعتقاله عند نقطة تفتيش في نهر النيل، ثم انقطع الاتصال به لأيام قبل أن تصل رسالة قصيرة تقول فقط: “انه حي”.
تعذيب وأعمال قسرية
يوثق التقرير أساليب تعذيب متعددة داخل أماكن احتجاز يديرها الجيش أو قوات الدعم السريع، شملت تعليق من القدمين، الضرب بالكابلات والأدوات الحديدية، صعقات كهربائية، حرمان من الطعام والماء، حبس داخل حاويات معدنية دون تهوية، إجبار المعتقلين على أعمال شاقة لساعات طويلة. يقول “موسى “أجبرونا على تفريغ شاحنات الأسمنت والحديد. كنا نتعرض للضرب إذا توقفنا للحظة”. ويقول علي: سمعت صراخ رجال يعذبون في الزنازين المجاورة. كنت أعرف أن دوري سيأتي. ووصف “خالد” ظروف الاحتجاز قائلاً: “كان المكان ضيقاً جداً ولا يوجد مكان للنوم. كنا نتناوب على النوم ونحن جالسين. كان الطعام قطعة صغيرة من الخبز لكل شخص في اليوم” ورغم أن القوانين السودانية والدولية تضمن الحق في المثول أمام القضاء خلال فترة محددة، فإن جميع من أجريت معهم المقابلات أكدوا أنهم لم يعرضوا على محكمة ولم يُسمح لهم بمحامٍ.

العنف الجنسي… سلاح حرب يمتد من الخرطوم إلى دارفور
ربما يكون الوجه الأكثر وحشية في هذا الصراع هو الارتفاع المهول في حالات العنف الجنسي. فقد شهدت مناطق واسعة من السودان ارتفاعاً صادماً في حالات العنف الجنسي منذ بداية الصراع. ووفقاً لتقارير أممية فإن تلك الحالات غالباً ما تُستخدم كسلاح حرب ولإرهاب المجتمعات المحلية.
وشملت الانتهاكات الاغتصاب، الاغتصاب الجماعي، الاستعباد الجنسي، الاختطاف، والزواج القسري. استهدفت النساء والفتيات على أساس العرق والانتماء الجغرافي، وفي بعض المناطق استُهدفن بسبب الاشتباه بانتماء عائلاتهن لطرف معين. ففي الجنينة وثق التقرير اعتداءات تستهدف النساء من إثنية المساليت، حيث قالت إحدى الناجيات “اختارونا لأننا من المساليت. كانوا يصرخون أننا نؤيد الجيش. أخذوا خمس نساء واغتصبونا بالتتابع”. وقالت أخرى “كانوا يختارون الفتيات الصغيرات ويأخذونهن بالقوة. لا أحد يستطيع التدخل. كانوا مسلحين بالكامل”
اما في الخرطوم وأم درمان فقد كشف التقرير عن غرف احتجاز للنساء فقط وتقول سيدة من بحري “كانوا يطرقون الأبواب فجراً ويأخذون الفتيات. سمعت صراخ جاراتي من الشارع”. بينما تقول أخرى “اغتصبوني ثلاثة منهم. كانوا يقولون إننا نساء الجيش. كانوا يهينوننا طوال الوقت”
ووصف التقرير ما جرى في الجزيرة ودارفور بأنه جرائم اختطاف واتجار واستعباد جنسي ارتكبتها أطراف الحرب، وذكر بأنه في ولاية الجزيرة، أبلغت عائلات عديدة عن اختطاف بناتهن من الطرق والنقاط العسكرية. وأن المختطفات تم استخدامهن في بعض الحالات كعاملات قسريات في الطهي والتنظيف داخل معسكرات عسكرية، إضافة إلى تعرضهن للاغتصاب المتكرر. ووثق التقرير حالة أم فقدت ابنتها ذات الـ16 عاماً لمدة أسبوع وهي تقول “أخذوا ابنتي ذات الـ16 عاماً. بحثنا عنها في كل مكان. بعد أسبوع، وجدناها مرمية قرب القرية. كانت في حالة صدمة شديدة” ولفت التقرير الى تقارير قال انها تشير بيع نساء وفتيات مقابل أسلحة أو مبالغ مالية، كما أشارت تقارير أخرى إلى حالات عنف جنسي ارتكبها أفراد من القوات المسلحة السودانية، خصوصاً عند استعادة مناطق كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وبحسب القانون الدولي، فان هذه الجرائم ترقى إلى جرائم حرب وقد تشكل جرائم ضد الإنسانية.
ونبه التقرير الى ان العنف الجنسي المرتبط بهذا النزاع ترك آثاراً نفسية وجسدية عميقة على الناجيات. واشار الى ان كثيرات منهن يعانين من إصابات جسدية خطيرة، حمل غير مرغوب فيه، وصمة اجتماعية، فقدان المنزلة داخل المجتمع، فوبيا الحركة والخروج وصدمات نفسية مزمنة، كما تواجه الناجيات صعوبة في الحصول على الرعاية الصحية، بسبب انهيار المنظومة الطبية ونقص المستشفيات العاملة.
لا تتركونا وحدنا
التقرير دعا المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة إلى فرض حظر أسلحة على طرفي النزاع، محاسبة الجناة عبر المحكمة الجنائية الدولية، الكشف عن مصير المختفين قسرياً، توفير دعم طبي ونفسي للضحايا، حماية النساء والفتيات من العنف الجنسي، إرسال بعثة مراقبة لحماية المدنيين.
تكشف الشهادات التي جمعتها مجموعة مدافعي حقوق الإنسان في المنفى أن معاناة السودانيين ليست نتيجة جانبية للحرب، بل هي نتاج سياسة ممنهجة من الانتهاكات والإفلات من العقاب. من بيوت الأشباح، إلى طرق النزوح، إلى مخيمات اللجوء، في وقت يردد فيه الضحايا العبارة نفسها التي ختم بها أحد الناجين إفادته: أوقفوا الحرب… احموا المدنيين… حاسبوا من فعلوا بنا هذا.



and then