نظرة عن قرب – إتفاقية جوبا للسلام في السودان

إن إتفاقية جوبا للسلام في السودان هي خطوة مهمة لإعادة بناء البلاد كدولة قوية ومتماسكة تنعم بوحدة وطنية ووجدانية في مواجهة الصعوبات الداخلية، المتنامية بإيقاع سريع، وتجيد فن التعامل بندية مع دول العالم بما يخدم مصالحها ويمكنها من إحباط ما يحيط بها من استهداف وأخطار خارجية، خاصة تلك المخاطر الإقليمية التي تهدد وحدة ترابها الوطني وأرضها.

غبدالباقي جبريل

 

يقلم : عبدالباقي جبريل*

إن إتفاقية جوبا للسلام في السودان هي خطوة مهمة لإعادة بناء البلاد كدولة قوية ومتماسكة تنعم بوحدة وطنية ووجدانية في مواجهة الصعوبات الداخلية، المتنامية بإيقاع سريع، وتجيد فن التعامل بندية مع دول العالم بما يخدم مصالحها ويمكنها من إحباط ما يحيط بها من استهداف وأخطار خارجية، خاصة تلك المخاطر الإقليمية التي تهدد وحدة ترابها الوطني وأرضها.

 لقد أتت إتفاقية جوبا للسلام في وقت حرج وأهل السودان في أمس الحاجة إلى التصالح والتسامح وإلى توافق وطني حقيقي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات كخطوة ضرورية لنبذ العنف ووأد الفتن والمخاطر الداخلية التي تهدد وحدة البلاد، ولإعادة تنظيم صفوف أبناء الوطن الواحد لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي ورثوها بعد ثلاثين سنة من الفساد والاستبداد والجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الحكم السابق وأن تتوحد جهودهم ودماءهم من أجل صون حدود البلاد الجغرافية وحمايتها من المهددات الخارجية والاعتداءات بكل أنواعها.

 تمثل إتفاقية جوبا للسلام في السودان الرجاء والأمل في العودة الآمنة والعيش الكريم، في ظروف طبيعية، لأكثر من ثلاثة ملايين مواطن سوداني شردتهم الحرب الداخلية والاقتتال في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق، دمرت حياتهم وتعرضوا بسببها لمختلف صنوف البؤس والعذاب والاهانة. يعيش هؤلاء الضحايا في ظروف لا إنسانية قاهرة بعضهم كنازحين في أراضي أجدادهم التاريخية داخل حدود البلاد والبعض الآخر تم إجبارهم على مغادرة أوطانهم والعيش كلاجئين في دول الجوار لما يقارب العقدين من الزمان.

لمناقشة إتفاقية جوبا للسلام في السودان بعقل منفتح وبعد نظر يحتفي بالمصلحة الوطنية العليا، فلابد من أن يتفق السودانيين جميعا حول المبدأ والغاية، في مواضيع السلم وإيقاف الاحتراب الداخلي، وبعد ذلك يمكنهم التوافق حول التفاصيل التي بمقدورها أن توصلهم إلى تحقيق الأهداف المنشودة بأقصر الطرق وأنجع الوسائل. 

لا شك إن كل السودانيين، وبلا استثناء، يتفقون حول مبدأ إيقاف الحرب الداخلية والغاية هي الوصول إلى سلام عادل، شامل ومستدام يؤدي إلى الإستقرار السياسي والسلم الاجتماعي ويضع لبنات النمو الاقتصادي ويوفر سبل العيش الكريم ورفاهية الحياة في يسر للجميع وذلك كهدف إستراتيجي ضروري لمصلحة البلاد وجميع أهلها.

 في الواقع إن الوصول إلى سلام عادل مستدام في السودان يمثل أحد أهم شعارات ثورة ديسمبر 2018 – حرية، سلام وعدالة – وهي أهداف عليا سامية وقيم إنسانية نبيلة يتفق حولها أصحاب الوجدان السليم في كل أنحاء العالم وتدعوا لها كل الثقافات والأعراف وكذلك تفعل الأديان السماوية وأولها دين الإسلام الذي أشار إلى الدخول في السلم والسلام بصورة عامة كتشريع إيماني وأصل كلي من أصول الدين وذلك في أكثر من موقع وبأكثر من صيغة وطريقة.

إن الوصول إلى سلام عادل ودائم، يلبي احتياجات ضحايا الحرب في السودان ويخفف عنهم ويلاتها، يمثل مكسب كبير للبلاد من نواحي عديدة وأحد أهم هذه المكاسب هو أنه يعيد تأهيل البلاد، ليس فقط كدولة حسنة السير والسلوك تحمي جميع مواطنيها وتدافع عنهم بلا تفرقة، بل كدولة فاعلة في المجتمع الدولي ويمنحها المزيد من الاحترام والهيبة في محيطها الإقليمي. 
بما إن لإتفاقية جوبا للسلام في السودان فوائدها التي لا تحصي فمن الطبيعي أن يكون لها استحقاقاتها الكثيرة التي يتوجب أن يقبلها ويعمل للإيفاء بها بلا تردد كل محبي السلام والعدالة بمختلف مسمياتها ودعاة الوحدة الوطنية في السودان.
 إن إيقاف الحرب الداخلية وتضميد جراح ضحاياها في مناطق النزاعات المسلحة والإيفاء باحتياجاتهم للعيش الشريف في كرامة واحترام لأدميتهم هو مسؤولية قانونية تقع على عاتق الدولة وواجب ديني وأخلاقي تدعو له الإنسانية وينشده الوجدان السليم مما يتوجب بأن يسعي جميع السودانيين للمساهمة في تحقيقهما بصورة عملية وصونهما من أي انتهاكات يمكن أن تحدث في المستقبل.
 أقل المطلوب من محبي السلام في السودان، وشرفاء البلاد بصورة عامة، هو دعم ومساندة أي جهد مهما كان قليلا أو كثيرا من أجل إيقاف النزاعات المسلحة والتناحر بما في ذلك قبول إتفاقية جوبا للسلام في السودان والسهر على حمايتها ومراقبة تنفيذ بنودها بأمانة وصدق وإخلاص.

 إن أولى فوائد السلام وإيقاف الحرب في السودان هي محاصرة التدهور المريع في كل جوانب الحياة في البلاد بما في ذلك إيقاف انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية ولجم الاعتداء على القانون الدولي الإنساني والتي كانت في السابق ممارسات ترتكب باسم الدولة ومحمية بسلطانها، بما فيها انتهاك الحق في الحياة وهو الحق الأول للإنسان والغير قابل للتصرف بعشوائية خارج الأطر القضائية.
 لقد حرمت الحرب ضحاياها من الأمن والأمان وجردتهم من الحق في التمتع بمستوى لائق من العيش الكريم الشريف، ليس فقط في مناطق النزاع المسلح بل امتد آثرها إلى بقية أنحاء القطر.
 يساهم السلام وإيقاف الحرب على الحفاظ على أرواح ضباط وجنود الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى وعلى توفير إمكانيات البلاد القتالية لحماية الثغور ومواجهة القوي الخارجية الطامعة في السيطرة على إمكانيات الدول ومقدراتها.
 من ناحية أخرى يساعد السلام وإنهاء الحرب الداخلية على إعادة توجيه جزء كبير من الأموال المهولة التي كانت تصرف على المجهود الحربي والأمني في جوانب التسليح والتشوين الخ، وهذا الصرف اللامحدود هو أحد الأسباب التي أدت إلى الضائقة الاقتصادية وضنك العيش الذي تكابده الغالبية العظمي من السودانيين مما جعل الحياة الكريمة والرخاء الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية حلم بعيد المنال للمواطنين في جميع أنحاء البلاد. 

إن إعادة توجيه الأموال والموارد البشرية إلى المشاريع الاقتصادية الإنتاجية وإلى الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم الخ هي ضرورة قصوى بعد أن بلغ التدهور الاقتصادي وضعف القوة الشرائية في السودان مستوي من التراجع غير معهود. حسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 13 اكتوبر 2020 فقد ارتفع معدل التغير السنوي (التضخم) لأسعار السلع الاستهلاكية والخدمية لشهر سبتمبر 2020 في 16 ولاية من ولايات السودان إلى مستويات غير مسبوقة بلغت أعلاها 340% في ولاية الجزيرة وأدناها 159% في ولاية سنار.

عبرت الكثير من القوى السياسية في السودان عن دعمها اللامحدود للسلام وإيقاف الحرب مع بعض الاشتراطات التي تستند على تقديراتهم السياسية الخاصة، وفي بيانها الصادر في الخرطوم بتاريخ 14 اكتوبر 2020، أمنت قوى الإجماع الوطني، وهي من أكبر تجمعات الأحزاب السياسية السودانية، أمنت على: "أهمية الوصول لاتفاق سلام شامل يناقش جذور الأزمة ويستوعب كل أصحاب المصلحة باعتبار إن السلام قضية مفتاحية لمعالجة كافة قضايا الأزمة الوطنية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية." كذلك فطن عدد من صناع الرأي العام والكتاب والمثقفين السودانيين للأهمية الحيوية لإتفاقية جوبا للسلام وعبروا عن دعمهم لها ومنهم الدكتور خالد التجاني النور عندما كتب في عموده "نصف رأي" في جريدة السوداني بتاريخ 11 أكتوبر 2020 ما يلي : "جاء اتفاق جوبا، بغض النظر عن التحفظات المثارة بشأنه، كسانحة فريدة في توقيت ثمين للعودة إلى منصة التأسيس لإعادة ضبط المشهد السياسي المضطرب على ساعة الجماهير ومطالبها الثورية الكبرى، التي أثبتت تجربة عام مضى من الحكم الانتقالي أنه أبعد ما يكون عن تحقيق حتى أدنى سقوفاتها، وشهد الناس كيف تواطأت الطبقة السياسية القديمة وحلفاؤها في المكون العسكري في التلاعب بالوثيقة الدستورية والالتفاف على حاكميتها، وعدم تنفيذ أغلب استحقاقاتها الملزمة لإكمال هياكل الحكم الانتقالي بما يضمن وجود مؤسسات فعّالة تضمن التوازن بين السلطات وتراقبها وتضبط أداءها، …" مضيفا إلى ذلك "… 

من الممكن لإتفاق جوبا إذا أُدير بمسؤولية كبيرة، وبسقوفات وطنية عالية، وبقيادة حكيمة تنظر لأبعد من عقد تحالفات ضيقة واقصائية أخرى أن يسهم في إعادة تأسيس الفترة الانتقالية على هدى مشروعية مؤسسية جديدة تضع في الاعتبار تلافي إخفاقات وفشل تجربة ما مضى من مرحلة الانتقال، وهو ما يستدعي أكبر من مجرد إدراج اتفاق جوبا في الوثيقة الدستورية التي ثبت عدم قدرتها على الصمود كمرجعية، إلى التوافق على دستور انتقالي جامع،…."

تتابع الجماعتين الدولية والإقليمية بإهتمام كبير ما يجري في السودان ومنذ مدة طويلة وذلك لموقع البلاد الجغرافي الممتاز وللأهمية الإستراتيجية للسلام والأمن في منطقة القرن الأفريقي الحيوية.
 لقد أنسحب هذا الاهتمام على تأييدهم غير المشروط لإتفاقية جوبا للسلام في السودان عندما عبر المجتمع الدولي عن دعمه لها في البيان الصحفي لمجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة بتاريخ 9 أكتوبر 2020 والذي جاء فيه : "هنأ أعضاء مجلس الأمن السودان وشعبه على هذا الإنجاز التاريخي الذي يمثل فرصة مهمة لتحقيق سلام شامل ومستدام في السودان وعلامة بارزة في الفترة الانتقالية نحو مستقبل سلمي ومستقر وديمقراطي ومزدهر للسودان." أكد أعضاء مجلس الأمن الدولي على الأهمية الحيوية والإستراتيجية للشراكة مع السودان مشجعين الموقعين على: "… البدء بسرعة في عملية التنفيذ، ولا سيما الأحكام الرئيسية للإتفاق المتعلقة بالترتيبات الأمنية ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع في دارفور والمنطقتين." كما أعربوا عن تضامنهم مع شعب السودان عندما " … أكدوا مجددا استعدادهم لدعم السودان خلال الفترة الإنتقالية مع التزامهم القوي بسيادة السودان واستقلاله وسلامة أراضيه ووحدته الوطنية."

لقد شاركت أكثر من عشر تنظيمات – مسلحة ومدنية – من مختلف أنحاء السودان مع وفد الحكومة الإنتقالية في الوصول إلى إتفاقية جوبا للسلام في السودان وبالتالي تطرقت الإتفاقية للأوضاع في معظم أقاليم البلاد وفصلتها في خمس مسارات مترابطة بصورة عضوية هي شمال، وسط، وشرق السودان، دارفور والمنطقتين وهما (جنوب كردفان والنيل الازرق) بالإضافة إلى النص علي تنظيم مؤتمرين لمناقشة قضايا التعايش السلمي والتنمية والبيئة والخدمات في ولايتي الخرطوم وشمال كردفان. التفتت الإتفاقية ولأول مرة في تاريخ السودان إلى قضايا قومية ذات خصوصية مثل توفير الخدمات والرعاية الاجتماعية لسكان الكنابي ومعالجة هموم الرعاة والرحل والمزارعين وأهتمت بأوضاع المسيحيين وأتباع الروحانيات الإفريقية وكريم المعتقدات وقررت بأن تكون هناك مؤسسات وطنية خاصة تهتم بشؤون هذه المجموعات كل علي حدة.

 إن إتفاقية جوبا للسلام في السودان بتوقيعاتها قد اشتملت على 266 صفحة ارتكزت في مجملها على معايير متفق عليها دوليا وضعت في قالب يتوافق مع واقع تعقيدات المشهد السياسي والأمني والتنموي في السودان. هذه المعايير، والتي اعتمدتها حكومات السودان المتعاقبة، تستمد قوتها الأخلاقية والقانونية من القيم الروحية والقوانين والتشريعات السودانية، لا سيما شرعة حقوق الإنسان والحريات المضمنة في الوثيقة الدستورية لعام 2019، وكذلك تستند على التزامات السودان الدولية والإقليمية كدولة مصادقة على العديد من مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية والإفريقية ووافقت على مؤشرات العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص والتعداد السكاني ومستوي الفقر وانتشار التعليم والحصول على الخدمات الاجتماعية كقيم ارتكاز مرجعية ومعايير تنموية معتمدة دوليا. كذلك اعتمدت إتفاقية جوبا للسلام في السودان على مبدأ العدالة الإنتقالية وجبر الضرر واسترداد الحقوق والتمييز الإيجابي والإنصاف والمحاسبة ومكافحة الإفلات من العقاب والحقيقة والمصالحة كمعايير قانونية ومبادئ عرفية مجربة من أجل إغاثة ومساعدة ضحايا الحروب والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ولتهيئة هؤلاء الضحايا للتسامح مع مآسي الماضي والتعايش السلمي مع بقية أفراد المجتمع بلا ضغائن أو رغبة في الانتقام والتشفي. بصورة عامة لا تخرج إتفاقية جوبا للسلام في مضمونها على التزامات السودان القانونية والأخلاقية كدولة مصادقة على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بعهديها، (العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، وعلى الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1969 بالإضافة إلى الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981.
 من ناحية أخري فقد أخذت إتفاقية جوبا في الإعتبار الترسانة الضخمة من القرارات الدولية والإقليمية ذات الصلة بقضايا السلام وإيقاف الحرب في السودان والتي تبناها كل من مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة وكذلك قرارات مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي بما يمثلان من شرعية دولية وإقليمية مهمة. 

تجدر الإشارة إلى إن إتفاقية جوبا للسلام في السودان هي مجهود فكري وإنتاج معرفي تم التوافق عليه في وضوح وشفافية وذلك بعد عمل مضني بأيدي وطنية سودانية – من شمال وجنوب السودان – وقد تواصل هذ الجهد لما يقارب العام ترك فيه بعض المفاوضين أهلهم وأحبابهم على بعد الألاف الأميال وبذل فيه الجميع، بدعم ومساندة الوسيط والخبراء، عصارة معارفهم وإمكانياتهم الفنية وهو ما يستحق الإشادة والثناء من الجميع. 

هذا الإنجاز بشموله ومخاطبته لجزور الأزمة في السودان، بمقدوره معالجة الخلل في الفكر السياسي الموروث الذي قاد الحكومات المتعاقبة إلى الفشل الزريع في إدارة التنوع الاثني والثقافي في البلاد والى التفريط في الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها، بل خانت عقدها الإجتماعي وعهد الدفاع عن بعض مواطنيها وضمان أمنهم وسلامتهم وحمايتهم في عدل ومساواة واحترام لحقوق المواطنة.
 
يبدو إن بمقدور هذه الإتفاقية تغيير الثقافة المجتمعية السائدة بصورة إيجابية تبعد عنها السلبيات والمفاهيم الخاطئة التي كبلت البلاد لعقود طويلة وعليه فيمكن التعويل عليها لبناء سودان ما بعد ثورة ديسمبر 2018 وأن تجيب على السؤال المحوري الذي ظل يؤرق السودانيين منذ أن بدأوا حكم أنفسهم بأنفسهم وهو "كيف يحكم السودان" مع تحديد أنسب الطرق التي تمكن أهله من تفجير وتسخير إمكانيات البلاد من أجل البناء والتعمير وتوظيف معارفهم ومقدراتهم لمصلحة الجميع. إن إتفاقية جوبا للسلام فى السودان، بشمولها، يمكنها أن تستجيب إلى معالجة أوجه القصور في مخاطبة ما يستجد من قضايا أو تلك التي لم تجد حظا وافرا من الحوار والتغطية خلال جولات التفاوض ويبقي في الاخير بأن العبرة تكون دائما في خواتيم الأمور.

من الضروري التذكير مرارا وتكرارا بأن إتفاقية جوبا للسلام في السودان تمثل وثيقة ثورية تحررية ضد  الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تحرر الحكومة من ماضيها المشبع بالعنف وانتهاكات الحقوق وتزيل عن كاهل البلاد أعباء الاقتتال الداخلي الثقيلة وتنهي التناحر بين الأخوة في الوطن وتوقف دمار مقدراتهم الوطنية، وبالتالي فهذه الإتفاقية تقوي الجبهة الداخلية وتعزز وحدة البلاد مما يساعد كثيرا على ضمان حماية حدودها الدولية ودحر الأطماع الخارجية في ثرواتها المهولة.

 إنصفت الإتفاقية المرأة السودانية في كل أطراف البلاد ونصت بأن تنال حصتها كاملة بما لا يقل عن 40% من الوظائف علي كل مستويات السلطة ومراكز إتخاذ القرار وأن تكون مشاركتها حقيقية وفاعلة وعادلة.
 لقد ضمنت الإتفاقية وحدة السودان من التفتت ونصت على المحافظة عليها اذ أنها لم تشير إلى موضوع منح حق تقرير المصير لأي من أقاليم السودان وأقصى استحقاق تم الإتفاق حوله تمثل في قبول مبدأ الحكم الذاتي لمنطقتي إقليم جنوب كردفان "جبال النوبة" والنيل الأزرق.

 تبنت الإتفاقية مبدأ الحكم الديمقراطي الفيدرالي بما يضمن مشاركة كل أقاليم السودان في الحكم المركزي في وقت يتمتع فيه الجميع بإدارة شؤونهم الإقليمية والمحلية بأنفسهم مما يمكنهم من المساهمة بفاعلية في تسخير الموارد المتاحة لتطوير مناطقهم وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا في حرية كاملة وشفافية ومسئولية تضامنية مع بقية أنحاء البلاد مما ييسر عملية المراجعة والمحاسبة على التقصير على كافة مستويات الحكم.

 في أعتقادي إن التوافق على اعتماد إتفاقية جوبا للسلام في السودان والتوقيع النهائي عليها لا يقل في الأهمية عن أهم اللحظات والأحداث التي مرت بها بلادنا بما فيها إتفاقية السلام الشامل لعام 2005 والتي منحت جنوب السودان استقلاله في عام 2011 وكذلك إعلان استقلال السودان عن حكم المستعمر الأجنبي في يناير 1956 وعليه فمن مصلحة أبناء السودان المحافظة عليها ورعايتها حتى تأتي بنتائجها المرجوة.

ختاما، إن إتفاقية جوبا للسلام في السودان، وما سيترتب عليها من إجراءات وممارسات في الحكم التشاركي الجماعي، يمكن ان تشكل واقع سياسي جديد ينقل البلاد إلى آفاق أرحب من الاستقرار السياسي والانفتاح داخليا وخارجيا ويطلق عجلة إعادة البناء والإنتاج والازدهار الاقتصادي والتصالح المجتمعي. كل هذه الآمال العراض يمكن تحقيقها بنجاح كبير إذا كانت هناك رغبة صادقة للتعاون من كل الأطراف وتوفرت الإرادة السياسية القوية والقدرة على التنفيذ وتوجيه الجماهير لدي صناع القرار وقادة الرأي العام مع الدعم المجتمعي الضروري.

 إن عدم مشاركة بعض من الحركات المسلحة الرئيسية في مرحلة التفاوض الذي أنتهي بإتفاقية جوبا للسلام في السودان لا ينتقص من أهميتها أو قدرتها علي تحقيق الكثير من أهدافها إذ إن الانشقاق مرتبط بعوامل ذاتية تخص مواقف المجموعات الممانعة وتقديراتها الخاصة لبعض النقاط ويمكن لهذه المجموعات في أي وقت أن تبني علي ما تم إنجازه من عمل حتي تكتمل مشاركة الجميع في عملية بناء السلام. هذه الإتفاقية، وككل جهد فكري انساني، فهي لم تصل طور الكمال وربما شاب بعض جوانبها بعض القصور وهو أمر طبيعي إذا نظرنا إلى عمق الأزمة السياسية التي عالجتها وبالتالي طبيعة الحلول التي أقرتها.

 لقد عالجت الإتفاقية نقاط كثيرة متشابكة وتعاملت معها بتفصيل واسهاب لكن في ترابط عضوي غير مخل بالأهداف الكلية مما يخلق درجات متباينة من التعقيد وتداخل الاختصاصات في مرحلة التنفيذ. من المتوقع أن تكون ترجمة بنود الإتفاقية إلى خطط عمل ومشاريع على أرض الواقع معقدة فنيا ومكلفة ماليا مما يجعل الحصول علي الخبرة الفنية والتمويل المالي الكافي لتنفيذ البرامج والمشروعات من أحد أهم التحديات التي يجب معالجتها. 

يبقي الأمل في أن تعمل جميع القوى السياسية على تغليب مصلحة البلاد العليا بعيدا عن المكاسب الحزبية والجهوية الضيقة وأن تتوافق على دعم هذه الإتفاقية سياسيا ودبلوماسيا وأهم من ذلك أن تتكاتف مؤسسات الدولة من أجل إيجاد الحلول الفعالة والعمل بروح الفريق الواحد لتذليل العقبات.

يبقي دور الضامنين والشهود وأصحاب المصلحة ومنظمات المجتمع المدني المعنية وكل قوى المجتمع الحية، خاصة لجان المقاومة وبيوت العبادة، كبيرا في متابعة تنفيذ بنود الإتفاقية وحث جميع الأطراف علي التقيد بالأهداف المتفق عليها وعدم إفراغها من مضامينها. مثل هذه المتابعة والدعم ضروريين جدا وحتي تحقيق حلم السلام الذي طال انتظاره في السودان.

* مدير مركز دارفور للعون والتوثيق – جنيف