سباق الاستبداد في السودان الكل فيه خاسر

عندما سقط البشير كانت في الساحة 3 مشاريع للاستبداد بحكم السودان، الأول والأخطر هو مشروع حميدتي المدعوم من الخارج، الثاني هو مشروع قوى الحرية والتغيير والمتكون من عدد من المشاريع المتفرقة لمكونات قوى الحرية والتغيير التي تتفق في الوقت الراهن، والأخير هو مشروع البرهان وبعض قيادات الجيش حوله.

 

 

بقلم / علي عبد الرحيم علي

 

 

عندما سقط البشير كانت في الساحة 3 مشاريع للاستبداد بحكم السودان، الأول والأخطر هو مشروع حميدتي المدعوم من الخارج، الثاني هو مشروع قوى الحرية والتغيير والمتكون من عدد من المشاريع المتفرقة لمكونات قوى الحرية والتغيير التي تتفق في الوقت الراهن، والأخير هو مشروع البرهان وبعض قيادات الجيش حوله.

في المقابل، أنصار الديمقراطية كذلك كانوا 3 أقسام، الأول كان المشروع الذي يحمله الإمام الراحل الصادق المهدي، الثاني كان تيارًا واسعًا من الإسلاميين الذين تفاوتت مبرراتهم ما بين أنصار الديمقراطية مبدأً ومن يرجونها اتقاء انتقام خصومهم الذين استبدوا بالأمر. القسم الثالث هو جمهور السودانيين الذين عبروا عن رغبتهم في الانتقال إلى نظام ديمقراطي عبر نضال جماهيري مستمر تجلت في المظاهرات والعصيان المدني والدبلوماسية الشعبية.

مع وفاة الإمام الصادق المهدي خلت الساحة من المشروع السياسي الوحيد للانتقال الديمقراطي، ولم تبق لنصرة هذا الانتقال إلا أشواق مبعثرة في بعض الفاعلين السياسيين ومجتمعة عند جمهور السودانيين، ولا يمكن لأشواق الديمقراطية أن تهزم مشاريع الاستبداد إلا إذا تحولت بدورها إلى مشاريع مدروسة تحملها وتعمل من أجلها جماعة أو جماعات منتظمة وذات نفوذ وقوة.

السودان الآن خال من جماعة بهذا الوصف والصراع السياسي الذي نشهده الآن هو التنافس بين مشاريع الاستبداد وحسب. الاستبداد العسكري معلوم الصفات، ولكن ينبغي أن نبين بعض ملامح مشروع الاستبداد المدني الذي كانت تعتزمه قوى سياسية في السودان.

البرهان الساعي إلى الحكم بطموح شخصي وسند إقليمي يدرك أنه بإبعاد مجموعة الأربعة قد نجح في كسب رضا قواعده في الجيش وإسكات غضبهم، ولكن حتى حين. فالسخط بين العسكريين على وضع الدعم السريع غير المألوف شديد. والذي يمنع القوتين من الاصطدام هو أن حِلفهم المؤقت له عدو مشترك. هي إذا معركة مؤجلة، ستقع بالسلاح أو بالتسوية

لعله غير دقيق أن نَصِف مشروع ما اصطُلِح على تسميته بمجموعة الأربعة (حزب الأمة، التجمع الاتحادي، حزب البعث، والمؤتمر السوداني) بالاستبداد المدني، لأن الهيمنة على القوات المسلحة هي جزء من هذا المشروع، ولكن المسار المتسلل نحو هذا الاستبداد يغطيه بغطاء مدني حتى يفوت الأوان على منعه حين ينكشف.

كنت قد كتبت عن فكرة "ديكتاتورية التنظيم" (كتاب أصحاب الحق، الفصل الأول) والتي يسعى فيها تنظيم سياسي للهيمنة على الدولة دون استخدام القوة العسكرية المباشرة. يتأتى هذا بالسيطرة عبر عمل دؤوب -وفي الغالب طويل- على مفاصل التغيير في المجتمع في المجال الفكري ومؤسسات المجتمع -تشمل الاقتصاد والإعلام- والمجال السياسي.

هذا كان في الأصل هو مشروع الحركة الإسلامية في السودان الذي اصطلحوا عليه بـ "التمكين" استشهادا بالآية "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ"، ولكن الإسلاميين تعجلوا التغيير واستعانوا بالعسكر ثم صار من الأمر ما هو معلوم.

مجموعة الأربعة -عدا حزب الأمة- يائسة من الوصول إلى حكم السودان عبر الانتخابات، فاتخذت مما سُمِّيت اصطلاحا، ولكن بحق، (لجنة التمكين) آلة لبسط سيطرتها على مفاصل الدولة وإنفاذ مشروعها للاستبداد.

لكني أظن مشروع مجموعة الأربعة كان يفتقر إلى العمق الذي كان عند الإسلاميين. كما أنه يفتقر إلى الوقت والنصرة العسكرية، لذلك نجدهم جدّوا في إطالة الفترة الانتقالية حيث بدأوا بـ39 شهرا في الوثيقة الدستورية، ثم أضافوا عاما جديدا في اتفاق جوبا، وأظنهم كانوا سيضيفون أعواما أخرى بالاتفاق مع عبد العزيز الحلو أو عبد الواحد نور، ثم أعواما أخرى بأي داع ممكن، هذا لشراء الوقت.

للسيطرة على القوات المسلحة، عملت المجموعة على الضغط على قيادة الجيش حتى يُخرج الضباط الإسلاميين من الجيش، وقد فعل البرهان ذلك بقدر ما، ثم وبالطَرق المستمر على فكرة صحيحة هي إعادة هيكلة الجيش، تتسلل المجموعة بحلفائها من الحركات المسلحة لبسط يدها عليه. يشهد لذلك أنهم ظنوا في حميدتي الحصان الرابح لهذا المسعى، فهتفوا له حين انقلب على البشير ولم تخرج كتائب للإسلاميين خوفا منه كما ظُنّ. ولكن حميدتي يحمل مشروعه الخاص للحكم، وقد أسفر عن هذا بأعنف الشواهد.

مشروع مجموعة الأربعة للاستبداد كان محتوم الفشل، كان ظنهم أنّ مواطن قوتهم هي الجماهير وطاقة الشباب على التظاهر في العالم الواقعي والافتراضي؛ إضافة إلى رمزية رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وسنده الدولي، ولعلهم فوق ذلك ظنوا أن البرهان واهن بسبب خوفه من المساءلة عن فض اعتصام القيادة في مايو/أيار 2019.

خسرت المجموعة الجماهير حين حنثت بوعدها أن تعتزل المناصب الوزارية ثم أبلت فيها بلاء بائسًا، وأساءت كذلك تقدير قدرتها على ابتزاز البرهان لتغيير الجيش غافلة عن طبيعة المؤسسة العسكرية التي تقوم لقائدها بالطاعة، ولكنه لا (يملكها)، فصبر الجيش على خَوَر القائد أو جَوْره الذي يطول، ولكنه لا يدوم، وكفى بالبشير موعظة.

أحسّ البرهان بالنيران التي تتأجج من تحته فضرب شركاءه الألدّاء على مضض ومضى يتعثر يحاول أن يمهّد الطريق لمشروعه الشخصي الذي عجّلته الظروف، ليبدأ في غير وقته. أما مجموعة الأربعة، فأغلب الظن أنهم سيخرجون -وينبغي أن يخرجوا- من السجن قريباً، ولكن لا أمل أن يتعلموا كثيرا مما جرى، ولو رُدّوا لعادوا لما نُهُوا عنه من قبل.

انقلاب البرهان لا يعدو أن يكون إخراجا متوقعا للكيان الأضعف في منافسة الاستبداد الجارية في السودان منذ سقوط الإنقاذ. والشراكة القائمة الآن بين البرهان وحميدتي في الحكم لا ينبغي أن يُظَنّ أنها شراكة بين الجيش والدعم السريع، فحالة الـ (مِلكِيّة) التي تربط حميدتي وأسرته بقواته لا تجري على الجيش.

البرهان الساعي إلى الحكم بطموح شخصي وسند إقليمي يدرك أنه بإبعاد مجموعة الأربعة قد نجح في كسب رضا قواعده في الجيش وإسكات غضبهم، ولكن حتى حين. فالسخط بين العسكريين على وضع الدعم السريع غير المألوف شديد. والذي يمنع القوتين من الاصطدام هو أن حِلفهم المؤقت له عدو مشترك. هي إذا معركة مؤجلة، ستحسم بالسلاح أو بالتسوية.

يحتاج حميدتي أن يهزم الجيش أو يرُوضَه تحت قيادته حتى يحكم السودان مستبدا بحكمه، ولكن هذا لا يبدو ممكنا الآن، فميزان القوة في كفة الجيش، وهذا يمسكه عن مخاشنة المليشيا الخوف على المدنيين. يضاف إلى ذلك أن الرفض الدولي للدعم السريع يبدو صارمًا، خاصة بعد مقتلة الاعتصام، مما يجعل تجميل صورة هذه المليشيا عسيرا جدا حتى لحليف قوي.

تبقى بعد كل هذا المعضلة الكبرى، وهي قبول المجتمع السوداني لمليشيا قبلية ولغت في الدماء حتى باتت منبوذة بلا صديق. هذا ربما لا يمنع آل دقلو من الاستماتة إن واجهوا الحساب، ولكنهم قد يقبلون التسوية بالتنازل عن الاستبداد بالحكم مقابل العفو كما هو معروف في حالات تنازل العسكريين عن الحكم.

صحيح أن كل طرق حميدتي إلى الحكم موصدة تماما، ولكن لا ينبغي الاتكال على عقلانيته وقبوله التسليم مقابل العفو مباشرة، فشهوة السلطان لا تخرج سهلة، بل تُنزع نزعا، لذلك ينبغي أن يكون عرض التسوية حاسما في الترغيب والترهيب.

الثوابت هي ألا يَحكم السودان بالقوة ولا تبقى قواته تحت يده إلا أن يخرج من السودان، ما دون ذلك يبقى موضوعا للتفاوض. (بعض هذا في مقال مآلات الثورة السودانية ومقال طريق الحرية يقود إلى السجان).

البرهان في المقابل، وبعد انقلابه هذا، يُحكِم سيطرته على السودان الآن مسنودا بتأييد طاغ من الجيش الذي ضجر أيما ضجر بالشراكة مع مجموعة الأربعة. البرهان تخلص من منافس، والجيش تخلص من عدو، والشعب السوداني تخلص من مشروع للاستبداد المتخفي في ثوب مدني، ولكننا لم نبلغ الغاية بعد.

الشراكة الحالية بين البرهان وحميدتي ستنهار وإن طال الزمن، لذلك فإن صلاح السودانيين في إخراج الاثنين عاجلا. والحق أن هذا كان واجب أي حكومة مدنية مدعومة بسند دولي تأتي إلى السلطة: استخدام كل أدوات الضغط الجماهيري والإسناد الدولي للضغط على البرهان وحميدتي للقبول بتسوية العفو مقابل التسليم، ثم، متى وصلوا إلى صيغة مرضية، الدفع إلى انتخابات عاجلة تقطع الطريق على الترتيب لأي استبداد جديد.

هذا ما أهملته مجموعة الأربعة فانتهت إلى الزوال. ما نحتاجه الآن هو قيادة سياسية جديدة تؤدي هذه المهمة. البرهان غير جدير بالثقة، ولكن ما وعد به هو المطلوب، فما العمل لدفع البرهان للوفاء دون أن نخشى غدره ويخشى حسابنا؟

هذا الوضع يشبه ما يعرف في علم الاقتصاد بـ "معضلة السجين". في هذه القصة الافتراضية ينال أحد السجينين حريته إن وَشَى بزميله الذي ينال حينها عقوبةً قصوى إن صمت، بينما ينال كلاهما عقوبة مخففة إن تعاونا بالتزام الصمت، أو قصوى إن وَشَيَا ببعضهما البعض. الشاهد من هذا المثال ليس ما هو معلوم من أن التسوية يلزم منها بعض التنازل لأجل بعض المكاسب للكل، ولكنه التنبيه على أنه في حال أصرّ كل طرف من الساعين إلى السلطة على تحقيق نصر كامل، خسر الجميع وعمّ الخراب.

والفارق الجوهري بين المثال أعلاه وواقعنا هو أنه لا توجد قناة اتصال بين السجينين، وعليهما بالتالي اتخاذ قرار مصيري اعتمادا على التوقع، بينما التواصل عندنا متاح والامتحان مكشوف، فما الداعي للعنت؟

شأن البرهان في أي تسوية للخروج هو ما ذكرناه بخصوص حميدتي، العفو مقابل التسليم مع منصب شرفي بعد الانتخابات كرأسٍ للدولة مثلا، ولكن المطلوب أكثر من ذلك. نحن نودّ أن نصل إلى صيغة تمنع الجيش من الاستبداد بالسلطة متى أراد بعض السياسيين ذلك.

ولعل السبيل الأمثل هو إدخال الجيش في السلطة (وليس إخراجه) بدستور مؤقت يقسم السلطة بينه وبين الحكومة المنتخبة بشكل مرضٍ يحفظ للجيش حظاً من موارد الدولة تحفظ لأفراده كرامتهم وتغنيهم عن أي مسغبة، والأمر السائد هو أن تقتطع الشعوب من أقواتها لراحة الجند في أوقات السلم مقابل الحماية في وقت الحرب والشدة.

في المقابل، ينبغي أن تُعاد هيكلة الجيش بشكل يُضعف احتمال ضربه الحكم الديمقراطي. هناك سبل عديدة يمكن اتخاذها، ولكن على سبيل المثال يمكن أن تَنْفَصل القيادة المُهِمَّاتية أو القتالية operational command التي تنشط في أوقات الحرب والطوارئ وتتولاها قيادة الأركان بهرميتها الصارمة المعروفة، من القيادة الإدارية التي تدير المؤسسة بشكل عام وتكون في وزارة الدفاع التي يتولى بعضها مدنيون.

وينبغي في هذه الهيكلة أن تمتزج إدارة القوات المسلحة بين العسكريين والمدنيين بشكل تستحيل معه إدارة قنوات الاتصال أو أي عمل لوجيستي في أوقات السلم عبر سلسلة القيادة القتالية وحدها. هذا ليس بالضرورة الحل الناجع، ولكنه مثال لترتيب واقعي وممكن لتقليل فرص استخدام الجيش لضرب الديمقراطية، والشأن في هذا موضعه الدراسات واستقراء تجارب الأمم والتاريخ.

السودان الآن يحتاج أبناءه النجباء، فالسياسة لا تقبل الفراغ، وزهد النجباء هو ما جعلنا مَطِيّة الحمقى ونَهَّازي السوانح الذين أوردونا المهالك. نحن بأمَسِّ الحاجة إلى أذكياء بلادنا حتى يديروا هذه المرحلة الصعبة بحكمة ويخرجونا إلى بَرّ آمن.

والمفارقة في حالنا الراهن، الذي ينطوي على خطر عميم، هي أننا لا نبحث عن الأخيار الزاهدين، وحبذا وجدناهم، ولكننا نحتاج العقلاء الذين يستطيعون أن يحققوا مصالح ذاتية محضة دون إهلاكنا، والحق أننا في زمن لا نخشى فيه شيئاً كما نخشى الحماقة.