مبادرة حمدوك .. وعناق الثورة والثورة المضادة ..

كنت جزءا من جلسة نقاش نظمها المركز الإقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني، حول المبادرة التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك.

بقلم: جعفر خضر

كنت جزءا من جلسة نقاش نظمها المركز الإقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني، حول المبادرة التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك.

وأحاول هنا أن أشرح وجهة نظري التي شاركت بها. تساءلت: هل نحن انتقلنا من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة؟ ورأيت أن المرحلة الحالية التي نعيشها هي مزيج بين الثورة والدولة.

لأول مرة يكون رئيس الوزراء صريحا لهذه الدرجة، ويقر بحقيقة ماثلة أن هنالك تشظي بين مكونات الثورة مدني مدني، مدني عسكري، عسكري عسكري.

كانت ردة فعل رؤوس الثورة المضادة متمثلة في البرهان وحميدتي والمكون العسكري، شديدة وسريعة، إذ أنهم لم يعتادوا على مثل هذه اللغة الصريحة من حمدوك تحديدا.

قال البرهان إن القوات المسلحة والدعم السريع على قلب رجل واحد، وأنهما بالمرصاد للعدو الذي يسعى إلى تفكيك السودان ، ولن نسمح أبداً لأي طرف ثالث يعمل على بث الشائعات وزرع الفتن بين القوات المسلحة والدعم السريع.

يبدو أن المعني بالطرف الثالث هو حمدوك نفسه، رغم أن التشظي العسكري العسكري، قد سارت به الركبان، وأفشاه حميدتي، الذي يرفض دمج قواته في الجيش.

إن إنكار حمدوك شبه التام للمشكلات كان معضلة كبيرة ، وأن التعامل الدبلوماسي كان يتطلب منه الاستمرار في الإشارة إلى المشكلات ولو باقتضاب، وليس نكرانها.

إن المشكلة تكمن في عدم توصيف النموذج السوداني، الذي يتحدث عنه حمدوك، وصفا صحيحا. إن النموذج السوداني في حقيقته هو عناق الثورة والثورة المضادة.

فبعد أن فضت الثورة المضادة اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو ٢٠١٩، وتم استشهاد وجرح واغتصاب المئات من الثوار والثائرات، أذاع عبد الفتاح البرهان بيانا كان بمثابة إعلان إجهاض الثورة وعودة الحكم العسكري.

لكن قوى الثورة نظمت مليونية الثلاثين من يونيو فاجأت العسكر وأذهلتهم ، فعادوا إلى بعض رشدهم، فرجعوا إلى المفاوضات مرغمين، لكن قوى الحرية والتغيير الخرطومية، كانت أقصر قامة من هبة يونيو، فدخلت المفاوضات بسقوفات منخفضة.

إن التسوية السياسية التي تمت بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، والتي أفضت إلى الوثيقة الدستورية لاحقا، ومن ثم تشكيل الحكَومة الانتقالية، إنما هي، في حقيقتها، تسوية بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، إنها شراكة مع العدو الذي ما من صداقته بد.

أدت الشراكة إلى مجلس وزراء سواده الأعظم من المدنيين، ومجلس سيادة مناصفة بين العسكر والمدنيين، مما يشي بأن قوى الثورة لها الغلبة.

لكن في حقيقة الأمر أن عساكر المجلس السيادي هم ثورة مضادة خالصة، سمها ناقع ، ليس فيهم واحد من العساكر الذين ساندوا الثورة جهرة ودافعوا عن الثوار بسلاحهم، بل هؤلاء، بدلا من تكريمهم وترقيتهم، تمت إحالتهم للصالح العام.

ونجد أن المدنيين خليط بين منسوبي الثورة والثورة المضادة ، ففيهم من يقدم مصلحة حزبه على الانتقال الديمقراطي. وبعضهم ليس في حالة ثبات ثوري بسبب تغيير المواقف نتاج عملية الشراء السياسي.

في ظل هذا الواقع تمدد عساكر الثورة المضادة بمجلس السيادة، وكان لهم نفوذ في تشكيل السلطة القضائية، بالمساهمة في تحديد الذين يتولون النيابة والجهاز القضائي، كما أمسكوا بملفات السلطة التنفيذية : الاقتصاد، والسلام، والعلاقات الخارجية.

وأدى انعزال حمدوك، الذي حظي بشعبية غير مسبوقة، عن الجماهير، وتزيينه للواقع الشائه، وتردي الأوضاع في معظم المجالات، إلى تدني شعبيته إلى مستوى منخفض جدا.

لكل ذلك لم تراوح معظم الملفات مكانها. تعطلت قضايا القصاص للشهداء والعدالة الانتقالية، وشوهت الثورة المضادة ملف السلام، وأصبحت العلاقات الخارجية مجالا للتنافس بين مكونات الحكومة، وسعى المكون العسكري لكسب حلفاء إقليميين يسندونه ولو أضر ذلك بالوطن.

وإذا دققنا النظر في موضوع إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو، في ظل عناق قوى الثورة والثورة المضادة، نجد أن الثورة المضادة لا ترغب في تنفيذ هذا التفكيك، لأنها لا تقبل أن تفكك نفسها.

وبسبب تغييب المجلس التشريعي أجاز المجلس السيادي ومجلس الوزراء، في 28 نوفمبر 2019، قانون تفكيك نظام الإنقاذ وإزالة تمكين حزب المؤتمر الوطني، الذي مكّن لنفسه على مدى ثلاثين عام. لكن صلاحيات لجنة إزالة التمكين لم تشمل إزالة تمكين الجيش والدعم السريع، الذين تسيطر عليهما الثورة المضادة .

ولذلك استمر وضع العراقيل أمام لجنة الإزالة. فقد درجت الشرطة على المماطلة والممانعة من حراسة المواقع المستردة بحجج واهية. وعندما تستعين اللجنة بالجيش والدعم السريع للحراسة تحدث بعض الإشكالات، فقد رفض الدعم السريع، مثلا، إرجاع منظمة الايثار الخيرية، ومنتزه الدوحة، إلا بأمر من قيادته !!

وهنالك عدم تعاون ومشكلة في النيابات التي تتباطأ في عملها وتسرّب المعلومات، كما أن هنالك ضعف في عمل نيابة تفكيك التمكين.

تنتهي قرارات اللجنة دائما بعبارة (على الجهات ذات الصلة وضع القرار موضع التنفيذ) لكن الجهات ذات الصلة، في الغالب، لا تتابع تنفيذ القرارات.

كما أن لجنة إزالة التمكين الاتحادية ليس لديها ميزانية، كان هنالك تسيير شهري، وحتى هذا توقف منذ أربعة شهور!!

وتقدم عضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا – أحد أركان الثورة المضادة – تقدم باستقالته من رئاسة لجنة إزالة التمكين، في محاولة منه لإضعاف اللجنة، وحتى يعطي للقوات النظامية ضوءا أخضرا لعدم التعاون معها .

إن اعتراف العطا – إبان استقالته – بالأخطاء وقوله (الأخطاء نتحملها جميعاً وليس وحدي، فأنا رئيس اللجنة، والخطأ حتماً غير مقصود واعتذر عنه لكل الشعب العظيم) قصد العطا بذلك تشويه صورة اللجنة والطعن في مصداقيتها.

وبسبب جدل المستمر بين لجنة الإزالة أصدر حمدوك قرارا بإنشاء (شركة السودان القابضة لاستلام وإدارة الأموال والأصول المستردة)، ولكن وزير المالية الدكتور جبريل إبراهيم حل لجنة استلام الأصول المستردة، بعد الجدل الذي دار بينه وبين الأستاذ وجدي صالح حول استلام أموال، ثبت أن الوزارة استلمتها.

وتواجه الآن المقرات والشركات التي تم استردادها من قبل اللجنة مأزق كبير يتعلق بالمسئولية القانونية والإدارية لتحديد المسؤول (المفوض) الذي تقع علي عاتقه إدارة الشركة بعد قرار وزير المالية بحل لجنة إدارة الأصول المستردة، وعدم تعيين ادارة جديدة، أو تسليم الأصول المستردة للشركة القابضة.

لا يحدث كل ذلك بسبب سوء تفاهم، وإنما هي حيل الثورة المضادة لعرقلة لجنة إزالة التمكين، ومن ثم الإبقاء على تمكين الإنقاذ.

بناء على ذلك ولكي تنجح مبادرة حمدوك ينبغي أن نعي جميعا أننا في حالة شراكة مع الأفاعي السامة، وعلينا أن تتقاسم الأدوار على هذا الأساس، على أن يحرص حمدوك وقوى الثورة على الالتحام بالشارع الذي لا يخون .

 

[email protected]