لماذا استهدفوا لجنة التفكيك؟

شهد يوم العشرين من أبريل تدشين وقفات إحتجاجية بعدة مدن سودانية لتأكيد استمرار الفعل الثوري حتى إسقاط الإنقلاب والتشديد على أن ثورة ديسمبر عصية على التقويض وبأن تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م هي القضية المركزية للثورة والتغيير.

ماهر أبوالجوخ

 

يقلم : ماهر أبوالجوخ
 

شهد يوم العشرين من أبريل تدشين وقفات إحتجاجية بعدة مدن سودانية لتأكيد استمرار الفعل الثوري حتى إسقاط الإنقلاب والتشديد على أن ثورة ديسمبر عصية على التقويض وبأن تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م هي القضية المركزية للثورة والتغيير.

يظن البعض أن إستهداف لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م واسترداد الأموال من قبل إنقلاب 25 أكتوبر هو أمر لاحق لتكوينها ودخولها لعش الدبابير بدون إستئذان واقترابها أكثر فأكثر من مناطق ممنوعة من الإقتراب والتصوير وفشل كل محاولات إعاقة عملها التي أخذت صور متعددة من أجل نتيجة واحدة هي عرقلة عمل اللجنة وإيقافها وتجميدها في الحد الأدني.

من الضروري التذكير أن لجنة التفكيك واجهت مخاطر الإجهاض المبكر قبل أن تخرج للوجود بإجازة قانونها الذي شهد شداً وجذباً وكاد أن ينتج 25 أكتوبر في الشهور الأولي للمرحلة الإنتقالية، ولعل الجميع يذكر حالة الترقب التي عاشتها البلاد في تلك الليلة الطويلة خلال انعقاد الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء لإجازة القانون وإشاعات محاصرة القصر الجمهوري وحدوث انقلاب عسكري… الخ، وانتهاء تلك الليلة الطويلة بإجازة الإجتماع المشترك لقانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م ومحاربة الفساد واسترداد الأموال.

شُكلت اللجنة العليا لتفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وترأسها أحد أعضاء المكون العسكري وهو الفريق ركن ياسر العطا لتأكيد التزام أطراف المرحلة الإنتقالية ممثلين في العسكريين والمدنيين على إستكمال تفكيك نظام الإنقاذ المنصوص عليه ضمن مهام المرحلة الانتقالية في المادة (7) من الوثيقة الدستورية وتم تشكيل لجنة الاستئنافات المناط بها تلقي استئنافات قرارات اللجنة برئاسة الفريق إبراهيم جابر وتنوب عنه عضوة مجلس السيادة نيكولا عبدالمسيح وهذه اللجنة منذ تكوينها في يناير 2020م وحتى إنقلاب 25 أكتوبر 2021م لم تنظر في أي إستئناف عُرض عليها وهو الأمر الذي جعل القرارات الصادرة عن اللجنة (مؤقتة).

هذا الاختلال فتح الباب لنقد قرارات اللجنة باعتبارها حرمت الذين تم إتخاذ قرارات في مواجهتهم من حق الاستئناف المنصوص عليه قانوناً وانتج ثغرة في قرارات الاسترداد والتحجج بعدم إستكماله بشكل نهائي. وما بين حسن نية البعض لتحقيق العدالة وسوء مقصد آخرين فإن التغييب القسري للجنة الاستئنافات مثل أحد المداخل للهجوم على لجنة التفكيك وقراراتها، لكن الأمر المدهش أن الذين أعابوا على اللجنة تقويضها للعدالة تجاهلوا تماماً التغييب القسري للجنة الاستئنافات والذي اتضح منذ أول وهله أنه أمر متعمد ومقصود.

العراقيل الموضوعة أمام اللجنة لم تقتصر على تعطيل لجنة الاستئنافات وإنما امتد لخنقها مالياً بإيقاف أموال التسيير المخصصة لها وخلق حواجز بينها والمؤسسات الحكومية عموماً ووزارة المالية على وجه الخصوص خاصة بعد إعفاء وزير المالية إبراهيم البدوي المتعاون مع اللجنة والمؤمن بأهمية دورها وعملها وأثرها على الإقتصاد وأثرها الإيجابي باسترجاع الأصول والمشاريع القومية التي منحها النظام المباد لعناصره بالتمكين، وتعافي الدولة وتحررها من شبكة التمكين الفاسدة المرتبطة بها.

بعد إعفاء البدوى وخلال فترة الوزيرة هبة فإن العلاقة بين اللجنة ووزارة المالية دخلت في مرحلة التوتر الخافت و المتصاعد في بعض الأحيان قبل أن تصبح عدائية بالكامل بعد تقلد جبريل إبراهيم لوزارة المالية الذي جعل من التشكيك في اللجنة وتأكيده المستمر لعدم تسلمهم لأي مبالغ مالية منها أحد  تصريحاته الثابتة منذ تقلده لموقعه في فبراير 2021م وحتى انقلاب 25 أكتوبر .. وبعدها صمت الرجل بعد إكمال مهمته في تقويض اللجنة.

من اللحظة الأولى لإجازة القانون وبداية عمل اللجنة بات من الواضح أن عدوها الأساسي هو حزب المؤتمر الوطني المحلول ومصادر تمويله وقياداته الذين استولوا على موارد وجهاز الدولة بالتمكين وواجهاته، وهذا التصنيف جعل كل الحملات الإعلامية تستهدف اللجنة وقراراتها وقياداتها.

بمرور الوقت تكشف السبب الحقيقي لمخاوف النظام المباد من اللجنة وأعمالها لكشفها بالمعلومات والأدلة عن عمليات فساد ممنهجة تمت خلال فترة حكم النظام المباد والتي لم تقتصر على تخصيص موارد الدولة لصالح الحزب الحاكم المحلول وعناصره وإنما بيع الأصول والشركات العامة لصالح كوادر وقيادات وواجهات الحزب المحلول، وعرضت وقائع وقصص ومشاهد فساد ثلاث عقود على السودانيين كاملة غير منقوصة بل أن بعض تلك القرارات الصادرة عن اللجنة لاسترداد أملاك عامة جاءت نتيجة للجان تحقيق عدلية شكلتها النيابة العامة لعدد من الملفات على رأسها النقل النهري وأراضيه والخطوط البحرية ومشروع الجزيرة وغيرها من الملفات المتداولة قبل سقوط النظام المباد والتي كُشف عن كامل تفاصيلها عبر قرارات لجنة التفكيك وقتها خرج للشعب السوداني تفاصيل الفساد الذي اجتهد النظام المباد في إخفائه وإبعاده من العيون بفقه (التمكين) و(السترة) و(الممنوع من النشر) و(البلاغات) ضد مكتشفي الفساد حماية للمفسدين وهذا مسلك معوج لا يقوم به إلا النظام المباد وانقلاب 25 أكتوبر!!

المدهش أن النظام المباد وعناصره قبل الإنقلاب وحتى بعد 25 أكتوبر بعدما صمتوا صمت القبور تجاه قضايا الفساد الكبرى وفشلوا في إثبات عدم صحة ما أوردته لجنة التفكيك من قصص ووثائق الفساد ونهب موارد البلاد، ولأول مرة تخرج سيرة الفساد واتهاماته لحقبة حكم النظام المباد بالأدلة والمستندات فباتت مسنودة بالوقائع والبراهين وما عاد بالإمكان رفع السبابه والهتاف وخداع الناس مجدداً (هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه) بعدما انكشف المستور وبانت الحقائق.

دخلت لجنة التفكيك عش الدبابير المرتبط بالإرهاب والجماعات الإرهابية ذات الصلة بالنظام المباد وأنشطتها الاقتصادية والإعلامية في البلاد الذي دفع السودان ثمنه باهضاً بالوجود في لائحة الدول الراعية للإرهاب. يكفي هنا الإستدلال بمنح شركة خاصة ذات صلة بتلك الأنشطة حق إنشاء منصات للبث إذاعي وتلفزيوني والتي تعتبر سلطة حصرية مقتصرة على هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني، وتم توظيفها لبث محتوى يحرض على الإرهاب والتطرف وظل ذلك المحتوى محل شكوى عدد من دول الجوار الإفريقي وكان النظام المباد ينكر صلته بتلك القنوات ثم يتساءل عن أسباب استمرار وضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب وكأنه يعتقد أن العالم يجهل ما يدور داخل البلاد !!

نجحت اللجنة في تفكيك وتجفيف مصادر التمويل للحزب المباد وواجهاته ومجابهة ومنازلة شبكات الفساد الإقتصادي وثيقة الصلة والمتحالفة مع جهات أو أشخاص نافذين في النظام المباد سواء داخل الأجهزة النظامية أو السياسية، وفي ذات الوقت التجفيف الكامل للمؤسسات العاملة في مجال تمويل المجموعات الإرهابية وهو الأمر الذي لعب دوراً إيجابياً في تحركات السودان للخروج من قائمة الإرهاب الأمريكية إذ أكدت تلك الإجراءات التي تم إتخاذها من قبل لجنة التفكيك تجاه المؤسسات ذات الصلة بالمؤسسات والجماعات الإرهابية والتي كانت بمثابة إعلان كامل لقطيعة السودان مع تلك الحقبة وعدم العودة إليها مجدداً.

منذ تكوين لجنة التفكيك فإن الإستهداف لم يقتصر على الجانب الإعلامي فقط وإنما تطور لأشكال مختلفة باستهداف وجودها وشل فعاليتها مثل تعطيل لجنة الاستئنافات أحد أشكاله ثم دفع رئيسها للاستقالة وممارسة ضغوط عنيفة على رئيسها المناوب الاستاذ/ محمد الفكي للاستقالة بغرض تجريدها من أي وجود سيادي بها.

بعد فشل جميع تلك المحاولات تم اللجوء لمساعي أكثر نعومة عن طريق إحلال مفوضية مكافحة الفساد كبديل لها وحينما فشل هذا الأمر أيضاً بإجازة قانون مفوضية مكافحة الفساد بالتأكيد على استمرار عمل لجنة التفكيك في مهامها بجانب تكوين مفوضية مكافحة الفساد، بعدها انتقلت المواجهة لمساحة أكثر علنية بصدور قرار بسحب الحراسات عن مقرات اللجنة لكشفها أمنياً.

نتيجة لفشل كل تلك الإجراءات والحملات الإعلامية المصحوبة بتصريحات وزير المالية والنتائج العكسية لجميع تلك الإجراءات التي زادت من الالتفاف الشعبي حول اللجنة، فإن الخيار الوحيد لإيقاف التفكيك كان اللجوء للانقلاب فجر 25 أكتوبر، ثم تشكيل لجنة لمراجعة قراراتها بغرض تجريمها والتي عقدت مؤتمر صحفي وحيد أعقبه فتح بلاغات في مواجهة عدد من أعضاء لجنة التفكيك والعاملين فيها بتهمة خيانة الأمانة وهو إتهام إذ صح يستوجب أن لا يقتصر على المجموعة المقبوضة وإنما يطال كل أعضاء اللجنة العليا الذين اشتركوا في إصدار القرارات وعلى رأسهم رئيسها السابق المستقيل -عضو الإنقلاب ومجلس السيادة الحالي- وبقية ممثلين المؤسسات والوزارات باللجنة العليا وعلى رأسهم ممثلي القوات النظامية المختلفة بما في ذلك الدعم السريع!!

خلل هذه الإجراءات وعدم شمولها وغياب وجود تهم وعدم التحرى مع المعتقلين أكد أن ذلك الإجراء هو في حقيقة الأمر هو إعتقال سياسي بغطاء قانوني فهذه حقيقة واضحة للعيان ولا تحتاج لكثير جهد أو عناء لاثباتها، وهو ما تم تعزيزها بالعديد من الوقائع والممارسات ونموذجاً له ما أوردته هيئة الدفاع عن المتهمين المعتقلين من لجنة التفكيك في بيانها الذي أصدرته الناطق الرسمي بإسمها  الأستاذة اقبال احمد على يوم أمس 19 أبريل 2021م.

إن الشروع في تفكيك بنية التمكين لثلاث عقود هو أحد أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وبدون هذا الإجراء لأصبحت هذه الثورة مجرد استبدال الطاقم الحاكم مع احتفاظ النظام المدحور بكامل سيطرته على جهاز الدولة والإقتصاد واستمرار شبكات المصالح الإقتصادية والفساد على ذات شاكلتها، ولذلك فإن أولى العتبات لتقويض هذه الثورة هو التراجع عن التفكيك كمنهج وإجراءات بالدوران الكامل للوراء وإرجاع الوضع لما كان عليه، ولعل هذا ما يفسر التسارع الكبير في نقض قرارات اللجنة حتى بدون إخراج قانوني نجد أن دائرة الطعون بالمحكمة العليا تفصل في قرارات لم تنظر فيها لجنة الاستئنافات وتتكامل الأدوار فتعلن لجنة الاستئنافات عن انتظارها للطلبات التي لم تفصل فيها دائرة الطعون بالمحكمة العليا، ورغم ذلك لم يخرج أحد ليسأل لجنة الاستئنافات عن جدوى وجودها من الأساس طالما أن هناك دائرة طعون تتولى منفردة مهام إلغاء قرارات دون انتظار لقرار لجنة الاستئنافات!

ما يحسب للجنة التفكيك أنها تحلت بالشجاعة الكاملة في مواجهة إتهامات بالفساد واستغلال النفوذ لعدد من العاملين فيها فشرعت في التحقيق في تلك الاتهامات وباشرت الإجراءات القانونية والجنائية تجاه منسوبيها المتهمين بالفساد وتعاملت مع تلك الواقعة بشكل شفاف وعلني دون تكفلها بتوفير الحماية لأي من العاملين لديها.

من المهم الإقرار في هذا الموضع بوجود خلل صاحب عمل اللجنة في بعض جوانبها وهو أمر قد يتسق مع الظروف المحيطة بها ونشاطها بالنظر للمعيقات التي سبق أن أشرنا إليها سابقاً ويشمل ذلك بعض الإجراءات والقرارات التي كان يمكن تلافي جزء كبير منها إذا ما عملت لجنة الاستئنافات، أو تمدد نشاطها من خلال تصديها لمهام ينظر إليها باعتبارها خارج مهامها. بغض النظر عن أثر وتأثير غياب لجنة الاستئنافات فإن لجنة التفكيك نفسها وقبل الإنقلاب شرعت في الإعداد لمؤتمر لتقييم أدائها ومراجعته إعترافاً بوجود جوانب قصور لهذا الجهد البشري يحتاج للتقويم والتطوير.

إن الإلتفاف الكامل على التفكيك كمنهج وإجراءات يعد علامة فارقة ويسقط كل أقنعة الزيف لإنقلاب 25 أكتوبر ودعواته الكاذبة بأنه (لإصلاح المسار) و(إستكمال ثورة ديسمبر) ضد (أربعة طويلة) ، فما سمع الناس والتاريخ بمسار ثورة تُصلح وتُستكمل بتمكين من ثارت عليهم الشعب وتعيدهم للمشهد مجدداً. ولعل إنقلاب 25 أكتوبر ما عجز قادته عن الصبر إلا لاحساسهم بأن مشرط التمكين يتقدم ويقترب من مكمن الداء الفعلي ولذلك اختاروا أن يضعوا حداً لكل ذلك وانتزعوا الأقنعة وأزالوا المساحيق و بفعلهم هذا منحوا التاريخ سانحة لتدوين المواقف للناس كاملة بدون رتوش لتقرأها الأجيال القادمة كاملة غير منقوصة.

سينتصر الشعب السوداني على الطغاة في يوم من ذات الأيام ويهزم الانقلاب ويستعيد الإنتقال الديمقراطي وتفكيك دولة الحزب الواحد والفساد والإستبداد سيمضي حتى يبلغ منتهاه قريباً ويستكمل مسيرته في تحقيق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة في الحرية والسلام والعدالة والدولة المدنية الديمقراطية.