فريق الخبراء المعني بالسودان والفقرة الملغومة

تنتشر في الأسافير في هذه الأيام كتابات وتعليقات صوتية تتناول فقرتين وردتا في التقرير النهائي الصادر في نيويورك من قبل “فريق الخبراء المعني بالسودان” والتابع لمنظمة الأمم المتحدة وهو تقرير الفريق رقم S/2020/36 الصادر بتاريخ 14 يناير 2020 (الفقرتين 62 و63 في صفحتي 17 و18 من النسخة العربية للتقرير).

عبدالباقي جبريل

بقلم / عبدالباقي جبريل

تنتشر في الأسافير في هذه الأيام كتابات وتعليقات صوتية تتناول فقرتين وردتا في التقرير النهائي الصادر في نيويورك من قبل "فريق الخبراء المعني بالسودان" والتابع لمنظمة الأمم المتحدة وهو تقرير الفريق رقم S/2020/36 الصادر بتاريخ 14 يناير 2020 (الفقرتين 62 و63 في صفحتي 17 و18 من النسخة العربية للتقرير). 

كالكثير من المهتمين بقضايا السلام في السودان، فقد تابعت عمل هذا الفريق منذ إنشائه في أواخر مارس 2005.
 خلال هذه الفترة لاحظت بأن هذه ليست المرة الأولى التي يحتوي فيها تقرير هذا الفريق على إشارات قليلة، لكنها خطيرة، توضع في شكل حقائق، وهي في الواقع معلومات غير موثقة أو مؤكدة بما لا يدع مجالا للشك، وقد تكرر هذا السلوك في انتقاد جميع أطراف النزاع المسلح في السودان بما فيهم حكومة نظام المؤتمر الوطني البائدة والحركات المسلحة في دارفور على قدم المساواة.

بالرغم من أن أعضاء الفريق المعني بالسودان في العادة يفردون الحيز الأكبر في تقاريرهم لتوثيق ما ترتكبه حكومة المؤتمر الوطني السابقة من مخالفات للقرارات الدولية، لكن من الملاحظ بأنهم كثيرا ما اجتهدوا في إيجاد مبررات واهية وذكر نقاط خلافية لتفادي هجوم النظام السابق، وحلفائه مثل روسيا والصين، علي تقاريرهم ووصمها بعدم الحياد وأنها تبرز دور الحكومة السابقة وتتجاهل دور الحركات المسلحة في تدهور الأوضاع على الأرض في دارفور والسودان.
 وصلت اعتراضات روسيا على أحد تقارير الفريق المعني بالسودان إلى عرقلة إصداره عندما تعارض ما ورد في بعض فقراته مع مصالحها في السودان.

 لتمرير تقاريره، إستفاد الفريق من عدم إطلاع الحركات المسلحة على محتويات مثل هذه التقارير في الوقت المناسب وكذلك على عدم مقدرتهم المشاركة في الإجتماعات الرسمية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تناقش فيها مثل هذه التقارير أو صعوبة الوصول إلى أعضاء الفريق وممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودحض ما يرونه من ادعاءات واردة في تقارير الفريق.

ذكر الفريق المعني بالسودان في هذه الفقرات بأن هناك تفاهم تم بين قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" والحركات المسلحة في دارفور على التحالف من أجل انتزاع حكم السودان من "الجلابة" كما ورد اللفظ في التقرير.

 لم يذكر التقرير أسماء قادة الحركات المسلحة الذين اجتمع بهم أعضاء الفريق ولا تواريخ هذه اللقاءات مما يضع علامة استفهام مشروعة حول مصداقية ما تم ذكره من ادعاء، خاصة وإن التقرير صدر في وقت كانت فيه بعض الدول تنظر إلى منبر جوبا لمفاوضات السلام في السودان بعدم قناعة حول مقدرات الوسيط في قيادة عملية التفاوض او صدق رغبة الأطراف في الوصول إلى إتفاق سلام لن يجدوا المعينات المالية والدبلوماسية الكافية لتنفيذه.

 إن ما ورد في الفقرات 62 و63 من التقرير المعني لا يعدو أن يكون أكثر من استنتاج لا يعتد به ومن الحكمة أن ينظر إليه الجميع من هذا المنطلق.

 هذا الإدعاء في أفضل الحالات ليس أكثر من انطباعات شخصية استندت على أحاديث مرسلة من مصادر مبهمة وليس هناك من وسيلة تمكن أعضاء الفريق، وبالأحرى كاتب التقرير، من الوصول إلى هذه الخلاصة الخطيرة والتأكد من صحتها بالدليل الدامغ. الإيحاء الوارد في الفقرتين المعنيتين من التقرير (62 و63) سيكون له أثر بالغ في تعميق سوء الفهم وخلق إشكالات مضرة تؤدي إلى الاقعاد بالسودان وترك باب الفتنة والتشرذم الوطني مفتوح على مصراعيه إلى ما لا نهاية.

على السودانيين الإنتباه إلى مثل هذه الكتابات وعدم أخذها كحقائق مسلم بها قبل الإستماع إلى المعنيين بالأمر من الأخوة في الوطن والحوار معهم لمعرفة حقيقة ما جرى. السودان بلاد مستهدفة من الكثيرين لما حباها له الله من إمكانيات مادية ونعم طبيعية مهولة، وبالتالي لا يمكن استبعاد فرضية أن يكون الغرض من إيراد هذه الفقرات في تقرير الخبراء المعني بالسودان هو السعى لتعميق الجراح وإشعال جذوة المخاوف والشكوك حتي يستمر استنزاف الوطن وتعطيل قدرات أبنائه على بناء دولة ديمقراطية تعددية، قوية ومتماسكة، مزدهرة اقتصاديا ويشار إليها بالبنان.

 يعلم كثير من السياسين والخبراء السودانيين المتابعين لعمل المنظمات الدولية والإقليمية، علم اليقين، مدى تشعب ارتباطات كتاب التقارير الدولية وسوء التقدير أو تضخيم الوقائع الذي يقعوا فيه بين الحين والاخر، سهوا أو عن قصد في بعض الحالات، بالرغم من الإجراءات الاحترازية الكثيرة التي يلتزمون بالأخذ بها والتقصي والتحريات الدقيقة التي يتوجب عليهم القيام بها.

إن حقائق الأشياء في سودان ما بعد ثورة ديسمبر 2018 تؤكد بأن المزاج العام في البلاد قد اصبح الأن متوجها بلا تراجع إلى الحرية للجميع والسلام والمصالحة – في الداخل ومع دول العالم – ومن أجل التحديث وخلق واقع جديد من العدل والمساواة في الحقوق والواجبات

. علينا التسليم بأن القيم التي نادت بها ثورة ديسمبر 2018، ودعت إلى تحقيقها، لن يستطيع السودانيين إنزالها إلى أرض الواقع في غياب روح عالية من التوافق والتعاون والثقة المتبادلة والإيمان بوحدة المصير.
 إن إرتفاع مستوي الوعى بالحقوق والواجبات والرغبة في الدفاع المستميت عنهما الذي نراه الأن سيكون كابح قوي لإيقاف طموح أي مجموعة سياسية أو مناطقية إذا فكرت بأن في مقدورها سلب بقية مكونات المجتمع حقوقهما بمأمن من شرور التمرد والاحتراب والنزاع والتي يمكن أن تكون، بكل أسف، متاحة للجميع.