دور المجتمع المدني في تحقيق أهداف الثورة

حللتُ ضيفاً على منتدى شروق الثقافي الخميس الماضي (١٢ مايو ٢٠٢٢) بمقره بمدينة القضارف، في فعالية تحدثت فيها تحت عنوان “دور المجتمع المدني في تحقيق أهداف الثورة”. يتكئ هذا المقال على مشاركتي في تلك الفعالية.

جعفر خضر

 

بقلم : جعفر خضر

حللتُ ضيفاً على منتدى شروق الثقافي الخميس الماضي (١٢ مايو ٢٠٢٢) بمقره بمدينة القضارف، في فعالية تحدثت فيها تحت عنوان “دور المجتمع المدني في تحقيق أهداف الثورة”. يتكئ هذا المقال على مشاركتي في تلك الفعالية.

فيما يخص تعريف المجتمع المدني، فإن الشيء الوحيد المتفق عليه هو أنه نقيض المؤسسات الحكومية الرسمية، وغير ذلك فهو محل اختلاف كبير، وربما من هنا جاءت تسمية المنظمات غير الحكومية (Ngos). وسمح هذا بأن تعتبر بعض التعريفات القطاع الخاص والإدارات الأهلية ضمن المجتمع المدني.

هذا يجعل وجود منظمات المجتمع المدني رهيناً بوجود الدولة، إذ إن تعريفها يرتبط بتميزها عن الدولة؛ وبالتالي فإن الدور الأساسي لمنظمات المجتمع المدني، في السياق السوداني، هو العمل على تأسيس الدولة الجديدة، إذ إن زوال الدولة يعني زوال المجتمع المدني. إنها معركة وجود.

نشأت الدولة السودانية نشاة مشوهة في ظل الاستعمار الذي كان يهدف لامتصاص ثروات البلاد، وظلت هذه التشوهات ماثلة طوال العهد الوطني، بالرغم من الثورات العظيمة التي حققها الشعب في أكتوبر ١٩٦٤، وأبريل ١٩٨٥، وثورة ديسمبر ٢٠١٨ المستمرة. بقيت تشوهات الدولة بسبب فشل الانتقالات عقب الثورات التي قدم فيها الشعب السوداني تضحيات كبيرة.

ومثلما أن وجود المجتمع المدني رهين بوجود الدولة، فإن وجود الدولة رهين بوجود المجتمع المدني، إذ إن الدولة تقوم على المواطنة، والمجتمع المدني هو مركز صناعة المواطنة.

يرى عزمي بشارة أن مفهوم “المجتمع المدني” يعني “المجتمع المواطني” من مواطن، وأن هنالك تشويشاً حدث بسبب الترجمة. وفرّق بشارة بين الجماعة والمجتمع، إذ تشير الجماعة (Community) إلى التجمع الطبيعي الذي لا إرادة للإنسان في اختياره كالأسرة والقبيلة، بينما المجتمع (Society) ينشأ نتاج الإرادة الحرة للإنسان، لذلك فهو يربط ربطاً وثيقاً بين المجتمع المدني ومفهوم المواطنة.

إن المجتمع المدني، منشأ المواطنة، هو الكيانات التي تملأ الفضاء بين الدولة والأسرة والقطاع الخاص. أي إن المجتمع المدني: غير حكومي، وغير وراثي، وغير ربحي (طوعي). هذا التعريف يضع القطاع الخاص خارج المجتمع المدني لأنه ربحي، وكذلك الإدارات الأهلية والطرق الصوفية ذات التركيبة الأسرية، كما يضع الأحزاب خارجه باعتبار احتمالية وصولها للسلطة وعندها تكون جزءاً من الحكومة.

إن ثورة ديسمبر السلمية العظيمة تسعى لتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، والتي ظهرت في شعاراتها (حرية سلام وعدالة .. مدنية قرار الشعب) و(مدنيااااو)، وهي الدولة التي تتأسس على (المواطنة) التي لا تميز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو الثقافة أو الجهة أو النوع او الإعاقة، والتي تكون فيها السلطة للشعب (السلطة سلطة شعب).

يرى المفكر السوداني حيدر إبراهيم أن المجتمع المدني نفسه تم استزراعه من الخارج مثل الدولة تماماً، وإن كان هنالك من يؤرخ لبدايات نشأة المجتمع المدني للحقبة السنارية.

هذا يتطلب أن يعمل المجتمع المدني على إصلاح نفسه بإزالة التشوهات التي لازمت نشأته وممارساته، حتى يكون قادراً على تأسيس دولة المواطنة، فالذي يفتقر للمؤسسية لا يستطيع أن يبني دولة المؤسسات.

أكد مؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني السوداني للعام 2019 الذي أعدته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومنظمة سوديا وآخرون، “أن المنظمات السودانية في خانة إعاقة الاستدامة الكلية”.

ونص المؤشر على حقيقة فاجعة: “على الرغم من أن التغييرات التي حدثت في ٢٠١٩ قضت على الكثير من الشواغل التي كانت تبعد منظمات المجتمع المدني عن الإفصاح عن أمورها المالية، إلا أن الشفافية المالية في أوساط منظمات المجتمع المدني ظلت محدودة خلال العام ٢٠١٩”. كما نص على: “إن روح التنافس والشك، عوضاً عن التضامن والتآلف، غالباً ما طغت على العلاقات بين الشبكات والتحالفات في العام ٢٠١٩. وقد كان السبب الرئيسي في هذه التوترات هو التنافس على الموارد المالية المحدودة وتشتت المشهد السياسي في أعقاب الثورة”.

بالتالي، فإن التزام النادي القديم لمنظمات المجتمع المدني بمعايير الحكم الراشد شرط ضروري للمساهمة الجيدة في تأسيس الدولة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

كما أن التزام منظمات المجتمع المدني الصاعدة المتمثلة في لجان المقاومة، العامل الجديد في ثورة ديسمبر والمنتشرة في كل أصقاع السودان، التزامها بالبناء القاعدي، هو الذي يجعل منها عاملاً حاسماً للمساهمة الكبرى في تأسيس دولة تطوي تشوهات قرابة السبعين عاماً من عمرنا الوطني.

إن استمرار واتساع البناء القاعدي للجان المقاومة والنقابات هو ثورة داخل الثورة، وبشارة تؤكد بأن ثورة ديسمبر آخر الثورات التي لا يعقبها سوى الخير المترادم.

وأن إصلاح منظمات المجتمع المدني يتطلب أن تلتزم هي أولاً بمعايير الحكم الرشيد: المشاركة، المساواة، سيادة حكم القانون، الشفافية، المساءلة والمحاسبة، النزاهة، الاستجابة للمتغيّرات المختلفة، الفعالية، والرؤى الاستراتيجية. هذا لا يتطلب غير توفر الإرادة في أعضاء منظمة المجتمع المدني لتصلح ذاتها.

كما أن إصلاح منظمات المجتمع المدني يتطلب أن تعمل هذه المنظمات بكل ما أوتيت من قوة للحيلولة دون عودة الدكتاتورية مرة أخرى، إذ إنها تعمل على تحويل المنظمات إلى مسخ مشوه، فبدلاً من أن تكون منظمات غير حكومية، فهي تحيلها إلى منظمات حكومية تابعة. ولقد شهدنا في عهد الإنقاذ الحرب الشعواء التي شنها النظام البائد على المنظمات التي عملت على الحفاظ على استقلاليتها مثل: منتدى شروق بالقضارف، ومركز الدراسات السودانية، ومركز الخاتم عدلان، وبيت الفنون، وغيرها.

كما يجب على المنظمات أن تخلق علاقة ندية مع المنظمات الغربية المانحة، لا أن تكون تابعة بحكم أنها المتلقي. تقول الدكتورة عائشة الكارب: “في أحيان كثيرة، خاصة المنظمات غير الحكومية، نكون أسرى لمسألة علاقات السلطة -القوة- المتعلقة بالمانحين أو الحكومة أو منظمات أكبر أو أفراد داخل المنظمات نفسها، هم يفرضون وجهة نظرهم لدرجة أننا نفقد هويتنا، ونفقد الشرارة الأولى التي جعلتنا نصبح نساء ناشطات في المقام الأول، والتمسك بهذه الشرارة ليس سهلاً”.

إن الحفاظ على الشرارة الأولى يقتضي أن تكون المنظمات قادرة على العمل من دون تمويل، أي أن تكون لها القدرة على تنفيذ أنشطتها من اشتراكاتها ومواردها الذاتية؛ ويقتضي أن تحسن التصرف في تمويل المنظمات بالانضباط في الصرف والشفافية التي تكسر الحائط الرابع للخشبة ببذل ميزانياتها في الهواء الطلق لجماهير الشعب السوداني.

كما ينبغي أن تعمل لجان المقاومة والنقابات والمنظمات على الحد من التدخل الحزبي في عملها، إذ إن بعض الأحزاب السياسية تجتهد في السيطرة على المنظمات وتجييرها لتخدم خطوطها السياسية، أو تصنع منها واجهات غير معلنة للحزب، ويعتبر بعض منسوبي الأحزاب ذلك نوعاً من الشطارة السياسية، في حين أن هذا جريرة أخلاقية كبرى، وتفاقم هذا السلوك بسبب سوء التربية الحزبية، وظل شعار (لكل حزبه والنقابة بالجميع) شعار تلوكه الألسن الحزبية.

إن الانخراط في هذه اللحظة التاريخية المفصلية في تاريخ الوطن، في لجان المقاومة أو النقابات أو المنظمات الأخرى، لهو فرض عين على كل مواطن ليقوم بواجب البناء المؤسسي للمنظمة، ومن ثم المساهمة في تأسيس الدولة السودانية الجديدة.