هل ستنطوي حقبة العسكر؟

تشكلت الدولة الحديثة، في كثيرٍ من أجزاء ما اصطُلح على تسميته بالعالم النامي، في الحقبة الاستعمارية، التي انداحت من أوروبا، عقب ظهور السلاح الناري، إلى مختلف أرجاء الكوكب. بخروج المستعمرين من المستعمرات، حوالي منتصف القرن العشرين، وقعت أقطارٌ كثيرةٌ في دوامة الانقلابات العسكرية. لم تكن أقطار العالم النامي مستعدةً، تمامًا، للتجربة الديمقراطية، المنقولة من السياق الغربي. لذلك، كان من الطبيعي، أن تقود الممارسة المشوهة للديمقراطية، والعجز عن التوافق الحزبي، في

بقلم: د. النور حمد

تشكلت الدولة الحديثة، في كثيرٍ من أجزاء ما اصطُلح على تسميته بالعالم النامي، في الحقبة الاستعمارية، التي انداحت من أوروبا، عقب ظهور السلاح الناري، إلى مختلف أرجاء الكوكب. بخروج المستعمرين من المستعمرات، حوالي منتصف القرن العشرين، وقعت أقطارٌ كثيرةٌ في دوامة الانقلابات العسكرية. لم تكن أقطار العالم النامي مستعدةً، تمامًا، للتجربة الديمقراطية، المنقولة من السياق الغربي. لذلك، كان من الطبيعي، أن تقود الممارسة المشوهة للديمقراطية، والعجز عن التوافق الحزبي، في مضمار بناء الدولة الوطنية، إلى تدخل الجيش لانتزاع السلطة، بزعم أنه المؤسسة الأكثر تماسكًا، وقدرةً على اتخاذ القرارات.

ارتبطت الانقلابات العسكرية، في كثير من البلدان، ومنها بلدان الشرق الأوسط، بالنزعة الثورية، التي جرت بلدانًا كثيرةً، إلى معسكر الشيوعية الدولية، آنذاك. جرت الانقلابات العسكرية، في مصر، والعراق، وسوريا، والسودان، وليبيا، وإثيوبيا، والصومال، وغيرها من البلدان، في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وكانت كثيرٌ من هذه الانقلابات، يسارية الطابع، رفعت شعارات التحرر من قبضة الامبريالية.

خلَّفت حقبة العسكر هذه، في كل البلدان، التي ابتليت بها، أوضاعًا معقدة. فالدافع الوطني، أو الثوري، الذي دفع بالعسكر، بادئ الأمر، إلى سدة الحكم، في مختلف تلك البلدان، تحوَّر، رويدًا، رويدًا، ليجعل من المؤسسة العسكرية، نظامًا ملكيًا، جديدًا، على رأسه جنرال، أو عدة جنرالات. يظهر هذه النموذج، بوضوحٍ شديدٍ، في كلٍّ من مصر، والجزائر، والسودان، وسوريا. وقد قدمت سوريا، بصورةٍ خاصةٍ، نموذجًا، لتحوُّل النظام "الملكي العسكري"، إلى نظام ملكي أسري. ولولا الربيع العربي، أوشك نظام حسنى مبارك، في مصر، ونظام القذافي، في ليبيا، أن يحققا تلك الصيغة، بتنصيب الابن، خليفةً لوالده، كما في سوريا.

تحولت دوافع الجيوش للوثوب إلى السلطة، باسم الوطنية، ومصالح البلاد العليا، إلى سطوٍ على الدولة، واحتكارٍ لمواردها، واغداقٍ لأموالها ومقدّراتها، على الطبقة الاجتماعية التي تشرعن النظام القائم، وتضمن له بقاءه واستمراريته. إمساك أفرع المؤسسات العسكرية، بمفاصل الثروة، حوَّلها إلى ما يشبه الإقطاعيين، الذين كانوا يحيطون بالأنظمة الملكية، في حقبة ما قبل الحداثة. ويمكن القول، إن المؤسسات العسكرية، بخروجها عن دورها المرسوم لها في الدساتير الحديثة، وسطوها على السلطة، في مختلف البلدان، وسيطرتها على الموارد، قد أعادت العبودية في ثوبٍ جديد.

خلَّف نظام الإنقاذ، في السودان، ثلاثة جيوشٍ، فتح لكل واحدٍ منها، دربًا للتحكم في طرفٍ من اقتصاد البلاد. هذه الجيوش الثلاثة هي: الصناعات الحربية، وشركات جهاز الأمن، وقوات الدعم السريع. فإذا أخفقت الفترة الانتقالية، في تصحيح هذا الوضع، ووضعه في إطارٍ جديد، يحقق الشفافية، وولاية الدولة، ومؤسساتها، على المال العام، فإن الديمقراطية الرابعة سوف تولد ميتةً، هذا إن قُدِّر لها أن تولد، أصلاً.