صراع الهوية السودانية ومهور الدم

بالمرجعية الأنثروبولوجية هناك هويتان مصطرعتان في السودان منذ حين من الدهر. الأولى تتعهد مظاهرها بالرعاية، لدواع أيديولوجية، وسلطوية، واقتصادية، تنظيمات النخب السياسية التي تنوي تمثلا للقيم الدينية في التشريع السياسي، والقضائي، والذي يضبط الممارسة الاجتماعية بالمضابط المنصوص عليها في الكتاب، والسنة، والإرث الفقهي

 

 

بقلم : صلاح شعيب

 

 

بالمرجعية الأنثروبولوجية هناك هويتان مصطرعتان في السودان منذ حين من الدهر. الأولى تتعهد مظاهرها بالرعاية، لدواع أيديولوجية، وسلطوية، واقتصادية، تنظيمات النخب السياسية التي تنوي تمثلا للقيم الدينية في التشريع السياسي، والقضائي، والذي يضبط الممارسة الاجتماعية بالمضابط المنصوص عليها في الكتاب، والسنة، والإرث الفقهي. وظلت هذه الهوية مطلب كل الذين نشأوا على التأثر بالمدارس الفكرية في المحيط العربي، وكذلك أولئك الذين يريدون تطوير موروثاتهم الدينية السودانية لتترسخ وفقا لـ”أحلام” التجديد الديني السلفي الناشط في ذلك المحيط. ويصعب القول إن بناة هذه الهوية يتحدرون من قوميات ذات أصول عربية صرفة فحسب، فالأصح القول إن هناك أيضا بنائين يتحدرون من أصول قوميات أفريقية، وهؤلاء أكثر حماسا للدعوة إلى تبني هذا الخيار.

أما الهوية الأخرى فهي هوية المجتمع الذي ورث تاريخا طويلا من الممارسات، والعادات، والأعراف، التي ترجع إلى فترة ما قبل الميلاد. وهذه الهوية تكونت عبر طبقات تاريخية تبني فوق بعضها بعضا إلى أن انعكست حديثا في التراث السوداني المشترك نسبيا. وما تزال هذه الهوية الجمعية عصية على الترويض السياسي.

في العصور الأخيرة من التاريخ جرب الأتراك، والإنجليز، والمصريون، في الفترة من عشرينات القرن التاسع عشر حتى خمسينات القرن العشرين، إخضاع هوية المجتمع لمصالحها. ولكنها ظلت راسخة، بل حدثت نفسها بالمعارف التي جلبها الأجانب. وقد حاولت ثلاث حكومات عسكرية تكييف هذه الهوية أيديولوجيا، ودينيا، ولكنها مشاريعها انهزمت بمشهدية عالية. وقد تمثل ذلك في ثورتين متقدمتين بمقاييس ذلك الزمان، 1964 و1985. ويدرج كثير من المراقبين سيناريو الثورة الشعبية الثالثة ضمن سيناريوهات مستقبل الوضع السوداني الراهن. كذلك يصعب القول إن رعاة هذه الهوية يتحدرون من أصول أفريقية محضة. وبالمقابل هناك منهم المتحدر من قوميات ذات جذور عربية أكثر شراسة في السعي إلى تبني مبادئ، وقيم، هذي الهوية التي تستوعب مسارات ثقافية متنوعة، ولا تنطفئ على الموروث الأفريقي فحسب.

هذا الاصطراع حول الزمان والمكان السودانيين ما يزال يستعر إلى يومنا هذا، إذ إن كلا الهويتين المتضادتين تتدافعان لابتلاع بعضهما بعضا. وكبير هو الثمن الذي دفعه السودانيون المتورطون في دعم هوة الهويتين، وغير الداعمين، لترسيخ هوية جمعية تعبر عنهم في مؤسسات الحكم، وحتى تتمظهر في ختان أبنائهم، وبناتهم، وطقوس زواجهم، مثالا.

هاتان الهويتان تضامنتا لأول مرة عند الدعوة إلى تحقيق الاستقلال. ومنذ ذلك اليوم لم يتفقا على شئ غير نظر كل واحدة إلى الأخرى بارتياب، إن لم تكن هي النظرة التي تضمر إمكانية السحق. أعلى تجليات هذا الاصطراع تمثل في الدماء الغزيرة للإعدامات السياسية، وكذلك الحروب التي اشتعلت في تخوم البلاد، والتي أنتجتها الآلة العسكرية للأنظمة المركزية المدعومة من الداخل والخارج، وكذلك المدعومة أيضا من الداخل والخارج. وخلافا لما يقول كثيرون فإن التدخل الأجنبي خدم الطرفين تاريخيا، ولم يتوان كل فريق من السعي إلى خطب وده. فبمثلما نجحت الحكومات المركزية في الاستفادة من مناخ التناقضات الإقليمية، والدولية، لاستيراد مدفع الحرب لتصويبه ضد السوداني، فإن حركات المقاومة أيضا استحوزت على أسلحة فتاكة لقتل السوداني أيضا.

إن ما يجري من اصطراع هوية بين المدراس السياسية السودانية هو نوع من اصطراع الوجود، في أصله، وتفاصيله، إذ يشاهده السودانيون، ويشجعونه مثلما تفعل روابط المشجعين في دار الرياضة. فقوى الهوية التي تتخذ من السلفية الدينية مجالا داعما للاصطراع حاولت أن تسيطر على وجدان السودانيين، وتشكل هويتهم، اهتداء بالمراجع الدينية القديمة المُشْكَل حولها أصلا. ولقد دُفِعَ الثمن غاليا أيضا، حتى إن الوسيلة المتبعة لقمع الطرف الآخر تناقضت تماما مع التعاليم الدينية. فضلا عن ذلك فإن الذين يصوبون بنادقهم نحو مركز السلطة فتك بعضهم بالقيم الديموقراطية داخل تنظيماتهم العسكرية، وفشلوا في إدارة حربهم الداخلية وفقا لقناعاتهم البديلة التي يريدون تحقيقها لكل السودانيين. كذلك دفع المواطنون في الجنوب، والشرق، ودارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق ثمنا باهظا، مضافا للأوضاع السيئة التي عايشها مواطنو الوسط، والشمال، وحتى من فروا بأرواحهم إلى الخارج.

وبرغم أن هذه السلفية تتنوع لتشمل الوهابية، والأصولية الإسلاموية، ولاحقا المدارس التكفيرية الناهضة، إلا أن تكتيكاتها المتمايزة تتقارب مع سلفية الأنصار والختمية وسائر الاتجاهات الدينية التقليدية. ولكن هذه السلفية التي تتشكل بمعاني التطرف، والاعتدال، ومزيج من الخلق السوداني، تجد نفسها في لحظة ما مضطرة إلى تبادل الأدوار للحفاظ على المكتسبات الاقتصادية لكل الأطراف المكونة لها. أما التيارات العلمانية، وحركات التجديد الديني، المتشكلة من الفكر الجمهوري، والليبرالي، واليسار الديموقراطي، ولاحقا نخب الأطراف، والقوى السياسية “السودانوية”، وعدد كبير من المواطنين، فهي أيضا تنشط في جهة أخرى لكسب جولة الصراع حول تشكيل هوية البلاد. وهناك قطاع عريض من المثقفين، والفنانين، أيضا يبذلون قصارى جهدهم في التنظير الأدبي، والموسيقي، والتشكيلي، والدرامي، ويسعون إلى تطبيق عصارة رؤاهم الفكرية لما ينبغي أن تكون عليه هوية بلادهم فنيا، بما لهذا التطبيق من أثره الموجب على حركة التنوير السوداني، إجمالا، والوعي السياسي، والاجتماعي، خصوصا.

كانت مرحلة نهاية الخمسينات أخصب مراحل الجدل حول هوية السودان المكون من قوميات متعددة، والتي نجد أن كل واحدة منها لها علاقة دم، وتصاهر، وتثاقف، بدول الجوار الثمانية. في تلك الفترة كانت مدرسة “الغابة والصحراء” الأدبية، و”مدرسة الخرطوم” التشكيلية، و”المنهج الزنجراني” للموسيقار إسماعيل عبد المعين، وجماعة “أبادماك”، ودراما العبادي، وخالد أبو الروس، وحمدنا الله عبد القادر، وصحافة بشير محمد سعيد، وإسماعيل العتباني، تحاول أن تؤسس لحوار منتج نظريا، وإبداعيا، وإعلاميا، حول الهوية في جوانبها الثقافية والعرقية. وبجانب هذا النشاط كانت الصحف تتناول قضايا الهوية ضمن مواقف السودان تجاه قضايا التحرر العربية، والأفريقية، والآسيوية، آنذاك. والمؤكد أن مرحلة العشرينات، والثلاثينات، والأربعينات، وما صاحبها من زخم سياسي لمدرسة اللواء الأبيض، وانتاج الحقيبة، ومرتكزات الدعوة إلى الاستقلال الوطني، والإنتاج الأدبي في الشعر، والنقد، والدراما، قد ألقت بظلالها على تفكير مرحلة الستينات التي فرضت عليها تحديات ما بعد التحرر الوطني، والظروف الإقليمية، والدولية، تطوير بنى النظر بشأن معاني الهوية التي تجمع ولا تفرق حول صيغة معقولة للحكم.

الآن تبدلت ظروف الصراع الدموي، والكفاح السلمي، بين الحكومة المركزية وبين خصومها الذين يريدون تقريبا معالجة سودانوية لمنظور الهوية برغم تمايزات الطرح، ومدارسه، وغاياته. ولكن المتفق حوله أن خصوم السلطة من خلال ما يطرحون نظريا يحاولون سودنة الحلول للقضايا المعاصرة بالفهم الذي ينطلق من حاجيات الواقع أولا، والاستفادة من التجارب السياسية الإنسانية ثانيا. ولعل ضخامة التجارب السودانية في الحكم المتقدمة عربيا، وأفريقيا، أتاحت لقوى الهوية السودانوية الاعتراف بضرورة إقامة نظام حكم عادل، وديموقراطي، ومساو لكل السودانيين، وكذلك محقق للجرائم التي ارتكبت في السنين الأخيرة، ويكون له فضله على الانحياز إلى النساء اللائي تعرضن لظلم ماحق، والقوميات المهمشة، والجهات الجغرافية، التي تضررت من حروب الصراع على موارد الدولة. وعلى الطرف الآخر وصل بعض المؤيدين لقوى الهوية السلفية إلى صعوبة الحفاظ على الحكم وفق “الأمنيات” التي ضخها الرموز الأصوليون، والسلفيون، لاتباعهم. ولعل تحديات الحكم الحالي الكثيرة، والمعارضة الشعبية الواسعة، فضلا عن التحديات الإقليمية والدولية، التي تجابه هذا القوى، ستجبر لا محالة على إضعاف همة السلفيين لفرض هويتهم.

إلى أي مدى يمكن تحقيق التعايش بين الهويتين بفروعهما المتعددة؟ سؤال تصعب الإجابة عليه في ظل المتغيرات المحيطة بالقطر السوداني. ولكن المؤكد أن الارتكاز على الحوار الثقافي الصحي الذي تتوفر فيه فرص مراجعة، وتقييم، ذينك الهويتين في إنتاجهما الفكري، والأدبي، والفني، هو المدخل لتخفيف حدة الاستقطاب التي وصل إليها هذا الاصطراع. بيد أن المشكلة الحقيقية أنه في ظروف تأجيج الصراع حربيا من الطرفين تُغيب فرص الحوار الثقافي ليستعاض عنه بالحوار السياسي الوطني الذي لا ينجز إلا إعادة إنتاج المحاصصات الوزارية دون أن يتحقق الحل. وبالتالي هذا النهج السلطوي يُهيج بثور الصراع حول الهوية ويفاقمها حتى تتحول إلى صراع إثني، يتصاعد في وضوحه، وذيوله، كلما تقادم الزمن.

الشئ الجدير بالذكر أيضا أن السودان بوصفه بؤرة لثقافتين عربية، وأفريقية، متورط في تحالفات تاريخية، فضلا عن أن الأهداف الدولية نحوه ضيعت أية إمكانية لنشوء ذلك الحوار. ولذلك سيظل السودان واقعا تحت تأثير ما تمليه عليه الظروف الجيوسياسية الخارجية التي تضعف إمكانية أبنائه لشحذ الطاقات نحو إحداث التسوية المتعقلنة.

هل ستتطور الحروب الدائرة في البلاد ليحسم طرف ما صراع الهوية المتلبس في حالات بالعرق لصالحه وتشكيل هويته ببعض التنازلات؟. إن لم تتحقق الثورة الثالثة التي تعيد الكرة إلى مركز سلطة جديد مدعوم وقادر على تمثل إيجابيات الهويتين، وإحداث تسوية عادلة لسودان خال من عوامل التشظي، فإن تصاعد الحرب هو السيناريو المحتمل، والمكلف، في ظل غياب أرضيات صلبة للحوار القومي، وعدم تحقيق الحكومة لتنازلات حقيقية تتعلق بإمكانية بناء الثقة، والكف عن مغامراتها الأيديولوجية، والتنازل عن قبضتها الحديدية على مناحي العمل الوطني. بل إن ما يزيد الطين بلة هو إنه مهما قدمت الحكومات من تنازلات لخصومها، فإن غياب الثقة في الإسلاميين المتحكمين في كل مواقع السلطة صار عقبة كؤوود أمام الحل السياسي للأزمة التي تتجذر على صراع الهوية.