فضيلي جمّاع: في كارثة النهود: إرحلوا يا عنوان الزمن القبيح!

يقول مثل شعبي عند قبائل العطاوة (البقارة) : “المصايب ضيفان”! ويضرب به الحلول المفاجيء دون أن يخطر إعلان منه على البال. فضيف الرحمن …

فضيلي جماع(ارشيف)

فضيلي جمّاع

يقول مثل شعبي عند قبائل العطاوة (البقارة) : "المصايب ضيفان"! ويضرب به الحلول المفاجيء دون أن يخطر إعلان منه على البال. فضيف الرحمن ليس بالضرورة أن يخطرك بقدومه. عليك فقط أن تشمر عن الساعد وتقوم بواجب الضيافة. والحلول المفاجيء أقسى ما يكون عند الكارثة، فهي لا تستأذنك ولا تعلن عن وقوعها. بل عليك وعلى النفير من أخيار الناس أن تتصدوا للكارثة حتى تقللوا من آثارها المدمرة.
ومدينة النهود – حاضرة دار حمر – شامة على خد كردفان. تحرس عدة طرق تربط كردفان الكبرى بأنحاء السودان المختلفة. وهي مدينة جمعت من أعراق الوطن السوداني من جعلوا منها قوس القزح في التزاوج والتراحم والتعايش الراقي. حاضرة قبيلة حَمَر العريقة التي تقبل عن طيب خاطر أن يكون عمدتها ذات يوم من أصول الشايقية (أبو رنات)، وأن يكون شيخ علمائها وواحد ممن تتلمذ عليه أجيال من طلاب العلم – جعلي عمرابي (الفقيه عباس).. هذه مدينة تعطي ولا تمن على من يقصدها. نقلت وكالات الأنباء ووسائل التواصل الإجتماعي والهواتف منذ أمس الأول – نقلت مشاهد حية للكارثة الطبيعية التي حلت بهذه المدينة العظيمة. ولعل الذين عرفوا مدينة النهود ، وعرفوا أهلها الكرام المسالمين ، بلغ بهم الحزن منتهاه وهم يرون ما حل بالمدينة وأهلها جراء الأمطار والسيول الغزيرة. ولأن الوقت ليس وقت ذرف الدموع وتدبيج المقالات في عظمة المدينة وأهلها ، فسوف أقصر مقالي على أمرين أراهما من الأهمية بمكان:
الأمر الأول : تقول ثقافة الفزع – وهي ركيزة أساس في ثقافة الإنسان السوداني – أن النجدة فرض على الجار وعلى الصديق الأقرب من حيث طول المسافة. وعليه فإن كاتب هذا المقال يوجه النداء إلى شعوب دار المسيرية ، وهم الأقرب من حيث الجيرة والرحم وسبل كسب العيش بسكان دار حمر أن يشرعوا في إرسال مواد الإغاثة على وجه السرعة لإخوتهم وأخواتهم في مدينة النهود. وعطفاً على ما قلته عن ثقافة (الفزع) فإن المسيرية بقياداتهم الأهلية في لقاوة والفولة وبابنوسة والمجلد مطالبون قبل كل سوداني أن تصل يد غوثهم لمدينة النهود. ولعلي أوجه النداء لقادة الإدارة الأهلية ومنظمات العمل الطوعي الإنساني أن تعد برنامجها الشعبوي الإغاثي السريع والقائم على جمع التبرعات المادية والعينية العاجلة وتسيير قوافل الإغاثة لإخوتهم وأخواتهم في مدينة النهود. على الأهل في دار المسيرية أن يعلموا أن فزع وإغاثة أهلهم وجيرانهم في دار حمر واجب وليس تفضلاً. أرفع هذا الكلام لزعامات الإدارة الأهلية : الناظر مختار بابو نمر والناظر الصادق حريكة عزالدين والعمدة إسماعيل حامدين وكيل نظارة العجايرة والعمدة الشوين والعمدة حمدي الدودو والعمدة يحي جماع وآخرين ومعهم رجالات ونساء التربية والتعليم الأفاضل والتجار ورجال الأعمال بلقاوة والفولة وبابنوسة والتبون والمجلد والميرم والدبب..نرجو أن يسارعوا بجمع التبرعات المادية والعينية حسب ما يجود به ضمير المواطنين ..وأن يعهدوا بهذه المواد للجنة ممن يتوسمون فيهم صفاء الذمة ونقاء الضمير، حتى يصل كل ما تبرع به المواطنون في دار المسيرية لأشقائهم في مدينة النهود المنكوبة.
أما الأمر الثاني فقد أشار إليه بعض الإخوة الذين سبقوني بالكتابة حول هذه الكارثة ، ومنهم حاكم كردفان السابق الأستاذ عبد الرسول النور إسماعيل الذي أحسن عبر مقاله إذ تطرق لتاريخ قبيلة حمر العريقة ومساهمتها في ماضي وحاضر السودان ، وأشار بدبلوماسيته المعهودة إلى ما أود الإشارة إليه بصراحتي التي لا يقبلها من يدفنون رؤوسهم في الرمال.
تقول الإحصائيات التي بحوزتنا أن عددا كبيرا من المواطنين لقوا نحبهم جراء السيول وانهيار المنازل والمباني في المرافق المختلفة بما في ذلك مبنى سجن مدينة النهود حيث قضى بعض السجناء تحت الأنقاض ، ولاذ سجناء آخرون بالفرار. كذلك انهيار عدد من المساجد والمتاجر والمدارس ودورات المياه والمخازن إضافة إلى إنهيار عيادة أخصائي الجراحة وأن المياه غمرت مناطق في الأحياء الشهيرة في المدينة كحي الشايقية والرديف وأبو سنون وأبو ضقل وأحياء أخرى كثيرة الأمر الذي أدى – حسب التقرير الصحفي الذي نشره الأخ الصحفي إبراهيم أبو كواية- إلى إنهيار حوالي 700 منزل إنهيارا كاملاً.
والسؤال الذي لا يريد من يطلق عليهم (مسئولون) في هذا الزمن الأغبر أن نسأله: ما الجديد في سقوط معدلات عالية من الأمطار في هذا الجزء من العالم ليحل بالمدينة كل هذا الدمار ولفقدان البشر والحيوان والممتلكات؟ لقد عشنا معظم سني حياتنا في بيئة جغرافية مجاورة لدار حمر ، بل إن معدل الأمطار في المجلد وباينوسة والفولة ولقاوة (دار المسيرية ) المجاورة لحمر أكثر ارتفاعا حيث أن منطقة المسيرية أقرب للعمق الأفريقي وهي بذا منطقة سافنا غنية تسقط أمطارها لفترة زمنية قد تصل الخمسة أشهر (من نهاية مايو حتى منتصف اكتوبر). تنهار بعض المباني في تلك المنطقة وفي دار حمر أيضا وفي المناطق المجاورة لكن ليس بهذا الحجم الكارثي. وظلت مدينة النهود عبر أزمان كما أشار الأستاذ عبد الرسول النور جارة لجبل حيدوب ، وبعض الأودية ، تسيل صوبها ما يسقط من رحمة السماء من مطر ، وقد ينهار من المباني ما ينهار هنا وهناك..لكن لم يحدث في تاريخ المدينة مذ عرفناها أن جرفت السيول والمباني الناس والبيوت بهذا القدر المهول .
لست ممن يستعجلون النتائج قبل استلام الدليل، لكني أقولها بناء على ما رشح من علامات الإستفهام التي ظلت تثار كلما حدثت كارثة في زمن تتم فيه السطوة على الأرض وتهمل فيه الخدمات ويخرج فيه اللصوص الكبار من جرائمهم كما تخرج الشعرة من العجين.
تشير أصابع الإتهام الأولى إلى أن هناك ردميات مرتفعة للطرق نفذت داخل المدينة دون بناء مصارف تحسبا لمثل هذه الظروف. إضافة إلى أن توزيع الأراضي شمل تشييد مباني فوق مصارف المياه مما سد المنافذ وضاعف معدل ارتفاع السيول. وما خفي أعظم !!
أختم بالقول أن علينا متى حلت كارثة طبيعية كهذه ألا نعلق الأمر على السماء وتحولات الطقس وهيجان الطبيعة. إن السماء لا تجود إلا بالخير العميم. وغلال حمر ومحاصيلهم الوفيرة كانت دائما محصلة للمطر الغزير. قد يقع التلف هنا وهناك..أما أن يحدث التلف بهذا القدر المهول في فقدان الناس والمباني والممتلكات فذاك ما يجب أن يسأل عنه من تصدوا للمسئولية وهم ليسوا أهلا لها !
إرحلوا يا عنوان الزمن القبيح في تاريخ بلادنا حتى يحلم أطفالنا بيوم ضاحك وفجر دون كارثة!!

[email protected]