حامد على نور : مشكلة السودان فى دارفور (من منظورنقدى لتاريخ السودان) (1-6)

نهدف من هذه الدراسة الى تناول مشكلة السودان فى دارفور من منظور تاريخى، فليست ثمة مشكلة بلا تاريخ.

حامد على نور

 

 

"مشكل التاريخ هو تاريخ المشكل"

 

بقلم/ حامد على نور

[email protected]*

 

1- نهدف من هذه الدراسة الى تناول مشكلة السودان فى دارفور من منظور تاريخى، فليست ثمة مشكلة بلا تاريخ. لكن ما يُؤسف له هو ان تاريخ السودان المدون الذى درسناه وما زلنا نقرأه فى كتبنا، يعانى فى الواقع من ازمة حقيقية! فاغلب المدون عنه، يتسم بالنزعة الفئوية – ان جاز التعبير- فالكتابات التى تناولت تاريخنا الوطنى، وخاصة كتب المناهج الدراسية التربوية، مشوبة بتلك النزعة الفئوية الآحادية، التى قامت على العاطفة الذاتية وعلى الانحياز الجهوي والاثنى، ولا تخلو من العنصرية. وواضح لنا ان تدوين تاريخ السودان لم ينشأ نشأة علمية او موضوعية ومحايدة، انما هو نتاج الظروف الذاتية والاجتماعية والثقافية والسياسية التى سيطرت على مفاهيم المتعلمين الاوائل الذين دونوا ذلك التاريخ او كتبوا تلك الكتب – وما آفة التاريخ الا رواته- فسعوا عبر نهج تحريفى وتخريفى، الى اسقاط  تلك الحالة الفئوية الجزئية على الكل، ليتم تعميمه كتاريخ وطنى يُدرس لناشئتنا كجزء من تربيتهم وتكوينهم الوطني. ولا غرابة ان لم تجد الاغلبية الغالبة من اهل الوطن، شيئا ذا قيمة عن تاريخ ونضالات اسلافهم فى مرآة ما يدرسون او يقراءون مما ينبغى ان يكون تاريخهم! فالتاريخ الرسمى المدون، لا يتعدى ان يكون جزءً انتقائيا من تاريخ الوطن، ومع ذلك لا يخلو من الحشو والتزييف. ومن الطبيعى ألا يمس شغاف قلوب جُل اهل الوطن، ولا يحسوا بولاء له، او انتماء اليه: "ما كتبوه لتعليم الناشئة ليس تسجيل تاريخ انما مصادرة تاريخ …انها سيادة النزعة (الذاتية) مع كل ما يصحبها من خلط فى القيم، وفقدان القدرة على التجريد، يكشف عن قلة الاستنارة، ان لم يكن الذكاء". (دكتور منصور خالد) 

2- وفى تقديرى فان هذا النهج فى كتابة التاريخ قد لعب دورا كبيرا فى تشويش وتغبيش وعى الناس، اذ كان جُل اهتمام اولئك الذين كتبوه، هو تمجيد فئات بعينها وتمييزهم تاريخيا ووطنيا، واعطاء صورا مثالية عنهم، مليئة بحكايات التأسيس والبطولات المتوهمة والمقاطع المنتخبة من الذاكرة الجماعية المشحونة بالاساطير والاوهام. وقد ادى هذا التركيزعلى الذات الى الغاء الآخر، بل اعطى صورة سلبية ومشوهة عنه، ادت عمليا لسلب حقوقه والوطنية والانسانية لصالح الفئة التى وجدت الفرصة التاريخية للوصول لقمم السلطة السياسية والاقتصادية قبل غيرهم، وبالتالى رأت، ومن ثم سعت أن تحافظ على هذا التمييز، وان تقاوم اى تغيير له او تحول عنه.

3- لستُ اكاديميا او متخصصا فى التاريخ او فى علم الاجتماع، وانما سعيت ان أقرأ تاريخنا الوطنى قراءة نقدية تسقط الكثير مما حملته الينا تلك الافتراءآت المدونة باسمه. والنقد هو الوسيلة المعرفية الاساسية للوصول الى الحقيقة، وهو أهم اداة ابتدعها العقل البشرى للبناء المعرفى. لقد تناول شأن تاريخنا الوطنى من هذا المنظور كثيرون، وهم اطول منا باعا وارسخ قدما ، فسبروا غوره وأوفوه حقه وقدره. ومساهمتنا المتواضعه هذه انما تتناول تاريخ دارفور كدراسة حالة من حالات ذلك التزييف المفضوح للتاريخ.  فتزييف تاريخ الوطن قد ساهم بشكل فاعل فى ترسيخ المفاهيم والممارسات العنصرية المعلنة منها والمخفية من قبل نخبة اهل الثقافة المهيمنة فى البلاد، تلك الثقافة التى تمثل فى تقديرى، جوهر ازمة الوطن وعمقها الدامى.. ومهما يكن من امر، فانا لا اهدف لمحاكمة التاريخ، كما لا اُحمل جيل الحاضر مسئولية خطايا الماضى ومثالبه، وانما اسعى  فقط، لمواجهة واقع ماضينا البشع، وضرورة الاعتراف برواسبه فى حياتنا. ومجددا  اتفق تماما مع المفكر والعالم السودانى، الدكتور منصور خالد، فهو خير من كتب عن ازمة الوطن وتناول نخبته – وهو منهم، واليهم ينتمى- بالنقد والتحليل العلمى الموضوعى، وفى هذا الصدد يوضح:
"..لا ندعو لمحاكمة الماضى، بل نلح على قراءته بوعى نقدى يستنطق الاحداث بهدف سبر اغوار المجتمع للتعرف على القيم التى تملكته، والمفاهيم التى سيطرت عليه، فالتاريخ يمتحن عقلانيا ولا يحاكم اخلاقيا. (…) الذى يخضع للمحاسبة هو سعى الذين تفترض فيهم الاستنارة، او ينسبون انفسهم اليها للابقاء على ارث تاريخى يتعارض مع كل القيم المعاصرة، بل ويصرون على تبريره رغم اثره فى تعميق الفوارق بين ابناء الوطن الواحد. "
(منصور خالد/جنوب السودان فى المخيلة العربية/ الصورة الزائفة والقمع التاريخى) 

 

تاريخ النزعة الفئوية الاستعلائية 

 

4- اتلمس فى هذه الدراسة المبسطة، الخلفية التاريخية لنشوء هذه النزعة الاستعلائية، والتى بدأت فى تقديرى مع دخول العرب السودان، ثم تطورت فى العصورالوسيطة، وهى مرحلة الممالك والسلطنات السودانية؛ وصولا الى تاريخنا الحديث، الذى يُورخ لبدايته بالغزو التركى المصرى فى القرن التاسع عشر، حينما تم دمج هذه الممالك قسريا فى دولة واحدة، ومن ثم نشوء الدولة السودانية الموحدة والتى عُرفت بأسم: (السودان التركى المصرى)، ككيان سياسى جغرافى محدد، وليس كمصطلح جغرافى عرقى.. هذا الدمج للكيانات السياسية السودانية فى كيان سياسى موحد قد ساهم فى انتقال الدولة الجديدة الموحدة من علاقات كانت محدودة بالعالم الخارجى، الى الارتباط بعلاقات اقتصادية و سياسية اكثر بالخارج  وبالسوق العالمية ، (انظرمحمد سعيد القدال). وقد استمر الاستعباد التركى المصرى  للسودان من العام 1821 الى 1885 حينما اسقطته الثورة السودانية واقامت دولتها الوطنية المهدوية، والتى لم تدم بدورها سوى ثلاثة عشرة عاما (1885-1898)، فانتهت مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية الاستعمار البريطانى للبلاد، والذى دام سبعة وخمسين عاما، قبل ان ينال السودان استقلاله.

 5- وفى العموم فان مصطلح تاريخ السودان الحديث بغرض موضوعنا هذا، انما يعنى تلك الفترة الممتدة من بداية العهد التركى فى العام 1821 وحتى هذا العام 2018، والذى يبلغ مداه 196. ويمكن تقسيم هذه الحقبة الزمنية الى اربع مراحل هامة من تاريخنا الوطنى على النحو التالى: 64 عاما تحت الحكم التركى المصرى، 14 عاما حكم الدولة المهدية الوطنية ، 57 عاما من الاستعمار البريطانى و61 عاما هو عمر استقلالنا المجيد حتى هذا التاريخ (2017).

6- فى المرحلة الاولى من هذه الحقبة، (العهد التركى المصرى 1821-1885)، نشأت الانتلجنسيا او لنقل النخبة السودانية، اول ما نشأت فى حضن السلطة التركية الحاكمة ورضعت من لبانها منذ بدية دخولها لمناطق الشمال والوسط النيلى، (انظرمحمد سعيد القدال/تاريخ السودان الحديث). وابان الدولة المهدية، (1885-1899) وعيت اكثر بذاتها الطبقية والاثنية والمناطقية، وحددت موقفها من الاخرين بشكل حاسم. وما ان جاء عهد الاستعمار البريطانى (1899-1956)، حتى تقوت وتعززت قدرتها فتوسعت لتصبح مؤسسة نخبوية قوية ومؤثرة فى كل مناحى الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، وساهمت بشكل فاعل فى تشيكل الراى العام فى اغلب بقاع السودان بخاصة فى مناطقها بالوسط والشمال النيلى وفى المدن الكبرى والريفية فى المناطق الاخرى، كما و ظلت محافظة الى حد كبيرعلى طابعها الفئوى ومتأثرة بالعقل الجمعى السائد فى تلك المناطق والقائم على االعشق للذات القبلية والعرقية، وتعتقد فى سمو ذاتها. فأولعت فى التفاخر، وارضاء الغرور بمدح الذات، حتى ثملت العقول من خمر المديح، فتمكنت منها النزعة الاستعلائية مما جعل الكثيرين مازالوا يتوهمون بانهم متميزون نوعيا عن غيرهم من سواد هذا الوطن. ومعلوم ان سكان الشمال والوسط  النيلى، بحكم موقعهم الجغرافى، هم الاكثر انفتاحا على الحضارة المتوسطية، وان قدرهم عبر التاريخ هو ان يستقبلوا جيوش الغزاة الاجانب القادمين من الشمال، مواجهة واصطداما او استسلاما اذا ما رق الحال. وسنركز فى تناولنا على الغزوين والعهدين الاجنبيين: التركى المصرى والبريطانى المصرى للسودان، وشكل تعاملهما مع السكان وردود فعل المواطنين فى مناطقهم المختلفة، والحصيلة التى خرجوا بها. من هم الرابحون ومن هم الخاسرون من شعوب هذه الدولة حديثة التكوين خلال هذين العهدين، ثم ندلف الى العهود الوطنية  لنرى خلالها الرابح من الخاسر ايضا ، والحصيلة الكلية للوطن عهوداستقلالنا المجيد. لكننا قبل ذلك لابد ان نقف على الخلفية التى تمثل العمق التاريخى لموضوعنا.  

 

تاريخ التكوين الاجتماعى  للسودان
دخول العرب ومحنة الشعوب الافريقية
  

7- جذور الشعب السودانى ضاربة فى هذه الارض، كحضارة انسانية عريقة انشأها الشعب السودانى الافريقى منذ آلاف السنين وساهمت فى تطوير الحضارة الانسانية جمعاء، ولسنا هنا فى مقام اثبات ذلك، فمن الادلة التاريخية المادية ما يكفى ويزيد. فالشعب النوبى المقيم على ضفاف النيل وفى جبال كرفان ودارفوروشعوب البجا على سواحل البحر الاحمر هو نفس شعوب دولة كوش النوبية التى كانت قائمة منذ قرون قبل الميلاد. ورغم تأثيرات الهجرات القديمة والحديثة من غرب افريقيا ومن شمالها ومن قبائل الصحراء الكبرى نحو ارض السودان الحالية، الا ان  المرحلة الفارقة فى تاريخ التكوين الديمغرافى قد بدأ بالفعل مع أجتياح القبائل البدوية من الجزيرة العربية عبر مصر وعبر البحر الاحمر نحو السودان. ولقد اثرت الحضارة العربية البدوية الجديدة تأثيرا سلبيا الى حد كبير على الحضارة النوبية السودانية المستقرة والمتطورة فى عهدها، فدمرت جزءً حيويا منها وحلت مكانها حضارة بدوية عنيفة ومتوحشة وعيا وممارسة. وصفة التوحش اطلقها شيخ المؤريخين (ابن خلدون)، قبل سبعمائة عام، على  العرب البدو، فأكد طبيعة التوحش فيهم، وانهم اهل انتهاب وفساد، وامة وحشية باستحكام عوائد التوحش واسبابه فيهم..وهذه طبيعة منافية للعمران ومناقضة له. (مقدمة ابن خلدون). 

8- واسم (السودان) نفسه انما اطلقه الجغرافيون العرب على البلاد التى تقع جنوب الصحراء الكبرى وسكانها من الافارقة السود، تفريقا لها من بلاد (البيضان)، اى مصر ودول شمال افريقيا التى اصبحت جزءً من العالم العربى بعد ان سادها العرب عن طريق غزواتهم وحروباتهم الجهادية على شمال افريقيا وحتى اسبانيا فى القرنين السابع والثامن الميلادى. وتؤكد الآثار والنصب التذكارية بالمنطقة ان السكان الافارقة من البربر الامازيق هم الذين يقطنون كل شمال افريقيا منذ العصور الغابرة، وذلك قبل غارات الرومان والقبائل الجرمانية والفينيقين ومن بعدهم العرب المسلمين فى القرن الثامن الميلادى.

9- ومعلوم ايضا، ان نشأت الدول الحالية، انما قامت فى مرحلة تلك الهجرات الكبيرة للشعوب والامم من مناطق الى اخرى، وعبر الحروبات الكلونيالية فى القارات القديمة واعادة ترتيب دولها بالمغالبة،  فتكونت دول جديدة ونشأت حضارات هجينة ثقافات متجددة؛ وقد تخلقت عدة اوطان عبرهذه الهجرت البشرية مثل ألامريكتين، و دول الاراضى الجديدة الاخرى كأستراليا ونيوزلندا وشكل الاستعمار الاروبى الحدود السياسية لاغلب الدول الافريقية الحالية. وفى العصور الاخيرة استقرت الاوضاع على ما هى عليها..ولعل الملاحظ الى حد كبير ان الدول التى اسوطنتها او سيطرت عليها امم متحضرة ومتمدنة، فقد تسارعت فيها أنسنة المشاعر والعلاقات بين الشعوب، فحققت قدرا من  التقدم والنجاحات الاقتصادية والاجتماعية، واما تلك التى استوطنتها القبائل والامم المتوحشة فقد ظلت متعثرة، الى حين تجد لنفسها او يجد الله لها مخرجا.  وبالعموم فقد مارست الشعوب القوية استغلال الضعيفة لدرجة كبيرة فى التاريخ الانسانى، الا ان ظلم الانسان لأخيه الانسان لم يعد امرا مقبولا الان، فالقيم الانسانية الرفيعة التى سادت عصرنا قد رفضت تلك الممارسات البئيسة  وقللت منها الى حد كبيرعبر انتشار مبادىء حقوق الانسان التى اخذت طابعا عالميا. 

10- وتظل الحقيقة التاريخية الماثلة، هى ان دخول الرجل الابيض، (العربى ومن بعده الاروبى)، الى افريقيا عبر العهود والثغورالمختلفه،  قد نتج عنه ممارسات همجية وقاسية ضد هذه الشعوب الافريقية. فقد عرف العرب سواحل افريقيا واعماقها، ودخلوها قبل الاروبين، و هم الذين بدأوا اصطياد الافارقة واسترقاقهم والتجارة بهم، وعندما دخل الاروبيون فى هذه التجارة، اصبح العرب سماسرة لهم. وما من شك بان دخول العرب الى السودان كان بداية المحنة القاسية للشعوب السودانية الافريقية الاصلية، فهناك جوانب مظلمة وسيئة كانت ومازالت سائدة فى ثقافة العرب حملوها معهم عند دخولهم البلاد، كنظرتهم الازدرائية والاضطهادية للانسان الاسود. فالعرب الذين دخلوا البلاد، ثم من بعدهم هجينهم من حملة الثقافة العربية وممن انتحلوا الانتساب اليهم اخذوا يثقافتهم، ساروا على نفس نهج  الممارسات الهمجية ضد السكان الاصليين. وقد ادت تلك الممارسات الى ان يهجر السكان الاصليون المناطق التى كانوا يأهلونها  فى شمال واواسط البلاد وعلى ضفاف الانهار، ويهربون الى الاطراف القصية معتصمين بالجبال الغربية اوالمستنقعات الجنوبية هربا من الغارات العنيفة الهادفة الى اصطيادهم واستعبادهم والتجارة بهم. فثقافة اصطياد وتجارة البشر انتشرت فى البلاد وترسخت برسوخ الثقافة العربية التى اصبحت تتعاطى وبكثافة صيد وتجارة الرقيق، ثم اورثوها فيما بعد لابنائهم واحفادهم، الذين أساءوا الى خوؤلتهم واثداء امهاتهم وبعضهم ما زالوا يسيئون متى ما وجدوا الى ذلك سبيلا!. 

 11- لقد تسرب العرب الى بلاد النوبة (السودان)، فى مجموعات وعبر فترات تاريخية متطاولة. وكأهل بادية، كانوا يقيمون فى الفرقان والبوادى، ولهم اماكن اقامات خاصة بهم فى داخل المدن، لكنهم بالتدرج اختلطوا وتصاهروا مع المجموعات السودانية المحلية. ويشير بروفسور سيد حامد حريز فى احدى كتاباته، ان المستوطنين العرب لم ينشئوا حملات تبشير بالاسلام، فنشر الاسلام لم يكن سببا من اسباب دخولهم البلا، خاصة وان ثقافتهم وممارساتهم الى اليوم، وحتى فى بلادهم محض عروبية ولا تمت الى جوهرالاسلام بصلة!… ان الاعرب الذين استقروا على شواطىء النيل واختلطوا بالشعب النوبى ذى الحضارة الضاربة فى جذور التاريخ، ونتج عن الاختلاط هجين من النوبة المستعربين. وهناك  من العرب ومن الكيانات الوافدة الاخرى، ممن (تنوبوا)- اى اصبحوا اقرب الى النوبيين- كالكنوز، واصلهم من عرب ربيعة، وبقايا الجيوش الغازية من الجهة الشمالية، ومجموعات المماليك الذين نزحوا جنوبا بعد انهيار مملكتهم فى مصر، (واصولهم من الشركس والاكراد والالبان والسلاف..الخ) وقد اصبحوا الان جزءً من المجموعة النوبية الشمالية. وهولاء واولئك من القبائل التى تقطن الشمال النيلى ممن عُرفوا بالمجموعات العدنانية، ويُعرفون ايضا بالمجموعة الجعلية بكل فروعها ومسمياتها المختلفة، واخرون من جهينة القحطانية سكنوا الوسط النيلى كالجزيرة وما حولها. وفى شرق السودان اختلطت ايضا قبائل البجا بعناصر عربية وافدة مثل الكواهلة واخرين من اليمن، وفى غرب السودان دخلت القبائل العربية القحطانية الى كردفان ودارفور من الشرق ومن الشمال المغاربى واختلطت بالقبائل المحلية واصبحت مكونا من مكوناتها وجزء عضويا من نسيجها الاجتماعى. هكذا كان لدخول العرب المسلمين وتغلغلهم التدريجى واستقرارهم النهائى فى السودان، اثر كبير فى  تشكيل الكثيرمن الكيانات الاثنية السودانية، وانعكست بوضوح على ملامحهم  وعلى ثقافتهم، كما ادت الى تغيرات كبيرة  فى البنية الثقافية السودانية، خاصة بعد انتشار اللغة العربية ورسوخ الديانة الاسلامية فى اغلب انحاء البلاد ولو بدرجات متفاوتة. هذه التحولات  كانت اكثر وضوحا فى شمال ووسط وشرق البلاد، منها فى المناطق الاخرى مثل جنوب كردفان، والنيل الازرق واجزاء واسعة من دارفور.

 12- ونتيجة لمصاهرات العرب بالسكان المحليين، زواجا كان او تسريا، والاخير هو الاكثر انتشارا، ومع مرور الزمن وانتشار الديانة الاسلامية بين الحكام  والنخب المجتمعية المؤثرة التى تغلغل العرب فى اوساطها ، فقد انتشرت العربية ايضا كلغة دين ولغة تواصل بين الشعوب المتعددة وبذلك هيمنت الثقافة العربية الاسلامية الجديدة وتغلبت على المحلية. ولعل اكبر تغير اجتماعى وثقافى حدث فى هذه الفترة هو تحول النسب العائلى و ميراث السلطة السياسية، من الامومة الى الابوة، اى من (الرحم)، الى ما يُعرف فى الفقه الاسلامى ب (العَصَبة). وعلى سبيل المثال فان الاميرة السودانية التى يتزوجها عربى، سيصبح ابنها (من العربى)، اميرا او حتى ملكا، وذلك بحكم الاعراف والتقاليد لملوكية السائدة فى اغلب افريقيا آنذاك. وبوصول ملك من اب عربى الى سدة الحكم، يتحول ميراث السلطة من بعده الى العصبة، اى الى ابن الملك من ظهره او الى اخيه من ابيه وليس لابن اخته اوابن بنته كما كان سائدا. هذا التحول ادى لرسوخ تمييز او سمو الاصل العربى فى مفهوم هجناء السودان.  اما مفهوم الهجين نفسه فى ثقافة العرب، فهو ابن المرأة غير العربية وهو عندهم معيب. وقد اوضح ابوالعباس احمد بن يحى ذلك بشكل جلى بقوله: "الهجين هو الذى ابوه خيرُ من امه"، بمعنى ان اباه عربى وامه غير عربية، (انظر لسان العرب لا منظور)، ويكون الامر معيرة حقيقية للهجين حينما تكون الام افريقية سوداء، فيصطدم الهجين بأزمة لونه وملامحه المختلفة عن ابيه العربى، فيسعى فى دأب للالتصاق (بعصبته)، والتفاخر بها  فى محيط خؤلته السود الذى يتعالى عليهم. ومن المعلوم ان الآباء العرب قلما يعترفون، ناهيك ان يتفاخروا، بأبنائهم من السرارى السوداوات. ولعل فى سيرة عنترة بن شداد فى التراث العربى، ما يكفى من الدليل على هذا الواقع..  ولقد كان عنترة اكرم واعز جانبا منًا نحن مستعربي السودان، فقد كان يعيش فى محيط مجتمع عربى ابيض، يتوق للتخلص من عبوديته الاجتماعية ونيل حريته، اكثر مما كان يتوق الى النسب العربى. فانتسابه  لعَصَبته من البيض لم يخفى عنه افريقيته المتمكنة منه لونا وملمحا، مثل تمكنها من اى سودانى آخر، وكما قال هو: "…فما لسواد لونى من دواء".  لكن سواد لون عنترة لم يقلل من عزة نفسه الابية، ولله دره من قائل: (لاتسقنى ماء الحياة بذلة.. بل فأسقنى بالعز كأس الحنظل)؛ فعزة النفس التى  كان يتوق اليها عنترة هى حريتة فقط والفكاك من اسر العبودية.. وعلى كل فقد انتزع عنترة حريته بينما فشلنا نحن مستعربى السودان ان نكونوا عربا معتبرين، بقدر فشلنا فى ان نكونوان افارقة محترمين..! ثم عز علينا بعد ذلك ان نرضوا لأنفسنا بان نكون مسخا  للاثنيين! ..فبينما نرى انفسنا عربا، بل وانتحلنا الانتساب الى اشراف العرب!… الا اننا فى نظر العرب (أسياد الاسم)، افارقة سود وندعى الانتساب للعروبة!.. ومن جانب  نضطهد اخوتنا وابناء جلدتنا  الافارقة، بل ويطلقون عليهم صفة "العبيد "..  لكن اخوتنا ”العبيد" هولاء يسخرون منًا، ويتهكمون علينا، اذ يروننا غِربانا  نختال بريش طوائيس!.
 وفى صبيحة استقلالنا وعند تولى اول قيادة وطنية زمام السلطة فى البلاد، فاذ بقيادتنا السياسية المستعربة، تحسم امرالهوية  الوطنية لكل شعوبنا المتنوعة بالعروبة!.. فازددنا غربة عن انفسنا وعن العالمين! … وازددنا ضياعا واستلابا، وبلغ بنا الرهق كل مبلغ – (والرهق فى اللغة هوالحمق والسفه/ لسان العرب)- ونحن نرى تاريخنا وتراثنا وحضارتنا المتجذرة منذ الاف السنين فى ارض هذا الوطن، مرهونة للعرب! وظللنا من بعد ذا ننظر الى تاريخنا نظرة اثنوغرافية، فيما بدأت حتى المجتمعات الاثنوغرافية تنظر الى نفسها نظرة تاريخية (بيير نورا)   

نواصل في الحلقة القادمة (2-6)
*باحث وناشط مدنى